الكتابة المسمارية: أقدم نظام توثيق في تاريخ البشرية من حضارة سومر إلى آشور

المقدمة:
الكتابة المسمارية (Cuneiform) هي أحد أقدم أنظمة الكتابة في التاريخ، وتُعرف بأسلوبها الفريد الذي يعتمد على النقش فوق ألواح من الطين، والحجر، والشمع، والمعادن، وغيرها من المواد الصلبة. وقد انتشرت هذه الكتابة بين شعوب جنوب غرب آسيا القديمة، خاصة في بلاد ما بين النهرين، حيث استخدمت لتوثيق اللغة، والإدارة، والعلوم، والأساطير، منذ بدايات الحضارة السومرية.
🏺 نشأة الكتابة المسمارية وتفوقها على الأبجدية
تعود أقدم المخطوطات اللوحية المكتوبة بالخط المسماري إلى عام 3000 قبل الميلاد، أي قبل ظهور الأبجدية بحوالي 1500 سنة. وقد ظل هذا النظام الكتابي سائدًا حتى القرن الأول الميلادي، حيث استخدمته حضارات متعددة في جنوب وادي الرافدين بالعراق، وعلى رأسها السومريون الذين ابتكروه للتعبير عن لغتهم السومرية. وقد أثبتت الكتابة المسمارية فعاليتها في تدوين اللغة الأكادية، التي كانت لغة التواصل لدى البابليين والآشوريين، مما جعلها أداة مركزية في توثيق الحياة السياسية والعلمية والدينية لتلك الشعوب.
🧱 تطوّر الكتابة من التصوير إلى الخط المسماري وانتشاره في اللغات السامية
شهدت بلاد ما بين النهرين قبل عام 3000 قبل الميلاد اختراع الكتابة التصويرية، حيث كانت تُدوّن بالنقش على ألواح من الطين والمعادن والشمع وغيرها من المواد المتاحة. ومع مرور الزمن، تطوّرت هذه الرموز المصورة إلى أنماط هندسية منحوتة تُعرف باسم الكتابة المسمارية، التي تميزت بقدرتها على التعبير المجرد والدقيق.
وقد كانت الكتابة السومرية أول نظام مسماري معروف، وهي لغة فريدة لا تنتمي إلى أي من اللغات المعاصرة. وبحلول عام 2400 قبل الميلاد، تم اعتماد الخط المسماري لكتابة اللغة الأكادية، ثم استُخدم لاحقًا في تدوين اللغة الآشورية واللغة البابلية، وهما من اللغات السامية التي ترتبط تاريخيًا باللغتين العربية والعبرية.
امتد تأثير الخط المسماري إلى خارج بلاد الرافدين، حيث استُخدم في كتابة لغات مثل الحيثية والفارسية القديمة، وظل هذا النظام الكتابي مستمرًا حتى نهاية القرن الأول الميلادي، مما يجعله أحد أطول أنظمة الكتابة استخدامًا في التاريخ القديم.
🔍 فك رموز الخط المسماري وفتح أبواب المعرفة القديمة
في القرن التاسع عشر، نجح العلماء في فك رموز الخط المسماري، مما شكّل نقطة تحول في دراسة حضارات بلاد الرافدين. وبفضل هذا الإنجاز، أصبح من الممكن قراءة آلاف النصوص القديمة التي تنوعت بين المجالات الإدارية والرياضية والتاريخية والفلكية، إلى جانب النصوص المدرسية والطلاسم والملاحم والرسائل والقواميس.
هذا الكشف أتاح للباحثين فهم تفاصيل دقيقة عن الحياة اليومية، والتنظيم السياسي، والمعرفة العلمية، والمعتقدات الدينية، مما ساهم في إعادة بناء صورة شاملة للحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية.
🏺 الألواح الطينية السومرية: أرشيف حضاري ضخم يوثق الحياة في بلاد الرافدين
يضم المتحف البريطاني أكثر من 130,000 لوح طيني من بلاد الرافدين، وهي تمثل كنزًا معرفيًا هائلًا يوثق جوانب متعددة من الحضارات القديمة. وقد تأسست قواعد الكتابة المسمارية في حوالي سنة 3000 قبل الميلاد خلال العصر السومري، حيث انتشر استخدامها على نطاق واسع في مختلف المجالات.
استخدم السومريون الخط المسماري لتدوين السجلات الرسمية، وأعمال وتاريخ الملوك والأمراء، بالإضافة إلى الشؤون الحياتية العامة مثل المعاملات التجارية، والأحوال الشخصية، والمراسلات، والآداب، والأساطير، والنصوص الدينية، والعبادات. وقد شكّلت هذه الألواح الطينية أرشيفًا حضاريًا متكاملًا يعكس عمق التنظيم الإداري والفكري في تلك الحقبة.
⚖️ قانون حمورابي: أول تشريع موحد في التاريخ وانتقال الحضارة من بابل إلى العالم القديم
في عهد الملك حمورابي (1728–1686 ق.م.)، شهدت مملكة بابل نقلة نوعية في التنظيم القانوني، حيث وضع شريعة موحدة عُرفت باسم قانون حمورابي أو مسلّة حمورابي، لتسري أحكامها في جميع أنحاء المملكة. وقد شمل هذا القانون جوانب متعددة من الحياة، منها:
القانون المدني
الأحوال الشخصية
قانون العقوبات
تميّز عصر حمورابي أيضًا بتدوين العلوم والمعارف، مما ساهم في نقل الحضارة البابلية من بلاد الرافدين إلى مختلف أنحاء المشرق، بل امتد تأثيرها إلى أطراف العالم القديم، لتصبح بابل مركزًا حضاريًا مشعًا في التاريخ الإنساني.
📚 مكتبة آشوربانيبال وألواح الكاولين: حفظ التراث العلمي في نينوى
يُعد الملك آشوربانيبال (668–626 ق.م.) من أكثر ملوك العهد الآشوري ثقافة واهتمامًا بالمعرفة، إذ قام بجمع الكتب من مختلف أنحاء البلاد، وأنشأ دار كتب قومية في عاصمته نينوى شمال العراق، لتكون أول مكتبة منظمة في التاريخ القديم. وقد ضمّت هذه المكتبة آلاف الألواح الطينية التي دوّنت عليها العلوم والمعارف والحضارة العراقية القديمة، مما جعلها مرجعًا فريدًا للباحثين في تاريخ بلاد الرافدين.
أما من الناحية التقنية، فقد استخدم البابليون والسومريون والآشوريون مادة الكاولين (Kaolin)، وهي نوع من مسحوق الصلصال النقي، لصناعة ألواحهم الطينية الشهيرة. وكانوا يكتبون عليها باستخدام آلة مدببة من البوص، بلغتهم السومرية، حيث تُخدش الرموز على اللوح وهو لا يزال لينًا، ثم تُحرق الألواح في الأفران لتصبح صلبة ودائمة، مما ساهم في حفظها لآلاف السنين.