زهير بن أبي سلمى كمصلح اجتماعي: الشعر كمنبر أخلاقي
مقدمة
لم يكن زهير بن أبي سلمى مجرد شاعر جاهلي يُجيد نظم القوافي، بل كان صوتًا أخلاقيًا في مجتمع قبلي مضطرب، يُوظّف الشعر لا للتفاخر أو الهجاء، بل للإصلاح والتقريب بين الفرقاء. في زمن كانت فيه الكلمة تُشعل حربًا أو تُطفئها، اختار زهير أن يكون شاعر الحكمة، لا شاعر السيف.
🧭 زهير في سياق اجتماعي قبلي
عاش زهير في بيئة تتنازعها العصبية القبلية، والغزو، والردّ بالثأر. لكنه لم يُنشد شعره ليُؤجّج هذه النزاعات، بل ليُهدّئها. فقد كان وسيطًا في الصلح بين عبس وذبيان، بعد حرب داحس والغبراء، واستخدم شعره لتثبيت السلم، لا لتأجيج الحرب.
"تَصِلُ الحبالَ إذا انقطعنَ، وتُرْتَجى عند النوازلِ، في الحوادثِ تُفزَعُ"
هذا البيت لا يُمدح فيه رجلًا لقوته، بل لحكمته وصلته للرحم، وهي قيم اجتماعية تُعلي من شأن الإصلاح على حساب الفخر الفردي.
🧠 الشعر عند زهير: منبر أخلاقي لا زخرف لغوي
زهير يُقدّم الشعر بوصفه وسيلة للتربية، لا للتسلية. فهو يُحذّر من الغدر، ويُشيد بالوفاء، ويُدين الحرب، ويُعلي من قيمة العقل. في قوله:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ
نجد دعوة صريحة للصدق الداخلي، وللنزاهة الأخلاقية، بعيدًا عن الزيف الاجتماعي. هذا البيت يُخاطب الضمير، لا الجمهور، ويُمارس وظيفة تربوية تتجاوز حدود الفن.
🛡️ زهير ضد الحرب: الشعر كدعوة للسلام
زهير لا يُمجّد القتال، بل يُدين آثاره. في مطولته الشهيرة، يُصوّر الحرب كوحشٍ لا يُبقي ولا يذر، ويُحذّر من عواقبها:
ومن لا يَذُدْ عن حوضِه بسلاحِه يُهَدَّمْ، ومن لا يَظْلِمِ الناسَ يُظْلَمِ
هذا البيت، رغم ظاهره الحربي، يُعبّر عن فلسفة دفاعية لا هجومية، ويُبرز منطقًا اجتماعيًا يُقرّ بضرورة القوة لحماية الحق، لا لفرض الباطل.
🔍 إعادة قراءة زهير في ضوء النقد الحديث
في ضوء النقد الحديث، يمكن اعتبار زهير شاعرًا أخلاقيًا يُمارس "الخطاب الإصلاحي"، ويُعيد تشكيل القيم الاجتماعية عبر الشعر. فهو لا يُخاطب الغريزة، بل يُخاطب العقل والضمير. ويمكن تصنيفه ضمن شعراء "الوعي الاجتماعي"، الذين يُوظّفون الفن لخدمة المصلحة العامة.
زهير، بهذا المعنى، ليس شاعرًا تقليديًا، بل هو مفكّر شعري، يُمارس دورًا تربويًا في مجتمعه، ويُقدّم نموذجًا مبكرًا للشعر الإصلاحي في الثقافة العربية.
🏁 خاتمة
زهير بن أبي سلمى هو أكثر من شاعر جاهلي؛ إنه مصلح اجتماعي حمل لواء الحكمة في زمن السيف، وجعل من الشعر منبرًا أخلاقيًا يُهذّب النفوس ويُصلح العلاقات. إعادة قراءته اليوم تُعيد الاعتبار للشعر بوصفه أداة للوعي، لا مجرد زخرفة لغوية.