التكرار والتركيز: أدوات زهير بن ابي سلمى في ترسيخ المعنى
في عالم الشعر الجاهلي، حيث تتزاحم الصور، وتتنافس الأصوات، اختار زهير بن أبي
سلمى طريقًا مختلفًا: طريق التأمل، الحكمة، والوضوح. لم يكن زهير شاعرًا يُراهن
على الإبهار اللحظي، بل كان يُراكم المعنى، ويُرسّخه في ذهن المتلقي عبر أدوات
فنية دقيقة، أبرزها التكرار والتركيز. فهل كانت هذه الأدوات مجرد تقنيات
بلاغية؟ أم أنها جزء من فلسفة زهير الشعرية؟
🔁 أولًا: التكرار كأداة ترسيخ
التكرار في شعر زهير ليس حشوًا، بل هو تأكيدٌ واعٍ للمعنى، يُشبه ضربات المطرقة على فكرة يريد ترسيخها في الوعي الجمعي.
أنواع التكرار في شعره:
-
تكرار المعنى بصيغ مختلفة:ومن لا يَحلمْ عن الجاهل يندمْومن لا يُجزِ المعروف يُجزَ بنقمههنا يُكرر زهير فكرة "الجزاء الأخلاقي"، لكن بصيغتين مختلفتين، مما يُعمّق الأثر.
-
تكرار اللفظ داخل البيت:
ومن لا يَصنْ نفسَهُ، لا يَصنْهُ الناسُ
التكرار هنا يُعزز العلاقة بين الفعل والنتيجة، ويُرسّخ الحكمة. -
تكرار الجذر اللغوي:
ومن لا يَفِ، لا يُوفى له
استخدام الجذر "وفى" مرتين يُعطي إيقاعًا داخليًا ويُرسّخ المعنى.
وظيفة التكرار:
- يُعزز الوضوح في زمن كانت فيه القصيدة وسيلة تعليمية.
- يُضفي إيقاعًا داخليًا يُغني عن الزخرفة اللفظية.
- يُساعد على ترسيخ القيم الأخلاقية في ذهن المتلقي.
🎯 ثانيًا: التركيز كأداة اختزال
زهير لا يُحب الإطناب، بل يُمارس الاقتصاد اللغوي، ويُركّز على الفكرة الجوهرية دون تشتيت.
مظاهر التركيز:
-
الابتعاد عن الصور الزخرفية:لا نجد في شعره تشبيهات متكلفة أو استعارات غامضة، بل نجد المعنى في أنقى صوره.
-
استخدام الجمل القصيرة المكثفة:
ومن لا يُكرم نفسه، يُهنْ
جملة قصيرة، لكنها تحمل قيمة أخلاقية كاملة. -
التركيز على النتيجة الأخلاقية بدل الوصف الجمالي:زهير لا يصف الفعل، بل يُركّز على عاقبته، مما يجعل شعره أقرب إلى الحكمة منه إلى الغزل أو الفخر.
🧠 ثالثًا: فلسفة زهير وراء التكرار والتركيز
زهير لم يكن شاعرًا يُجامل، بل كان مُعلّمًا شعريًا، يرى في القصيدة وسيلة لتقويم السلوك، لا مجرد ترف لغوي.
- التكرار عنده يُشبه التكرار في التعليم: لترسيخ المفهوم.
- التركيز يُشبه الحدّ المنطقي: لا يقول إلا ما يلزم.
- كلا الأداتين يُخدمان وظيفة أخلاقية واجتماعية، لا مجرد بلاغية.
📊 مقارنة بين زهير وشعراء آخرين
الشاعر | التكرار | التركيز | الوظيفة الشعرية |
---|---|---|---|
زهير بن أبي سلمى | واعٍ، ترسيخي | مكثف، اختزالي | تهذيب أخلاقي وتأملي |
النابغة الذبياني | زخرفي، صوتي | متوسط | مدح سياسي ودبلوماسي |
طرفة بن العبد | عاطفي، غنائي | متنوع | تعبير عن الذات والتمرد |
🏁 خاتمة
التكرار والتركيز في شعر زهير بن أبي سلمى ليسا مجرد أدوات بلاغية، بل هما ركيزتان في مشروعه الشعري الأخلاقي. لقد فهم زهير أن المعنى لا يُغرس إلا بالتكرار، ولا يُحترم إلا بالتركيز. وبين المطرقة والسندان، صنع زهير قصيدة تُشبه النقش على الحجر: واضحة، خالدة، ومؤثرة.