--> -->

عبد المسيح بن عسلة الغساني: شاعر المسيحية العربية في الجاهلية

author image

رسم فني واقعي لفارس عربي من الجاهلية يرتدي عمامة بيضاء وعباءة بنية، يحمل سيفًا مزخرفًا على كتفه، ينظر بثبات نحو الأفق في خلفية صحراوية عند الغروب، يُجسّد عبد المسيح بن عسلة الغساني شاعر المسيحية العربية في العصر الجاهلي.

✒️ مدخل تمهيدي: حين يتكلم المسيحي بلسان العرب

في العصر الجاهلي القديم لم يكن العرب على دين واحد فلم يكن كل العرب يعبدون الأوثان فكما ذكرنا كان جزء كبير من العرب على دين المسيحية، ومن ضمن هؤولاء يبرز اسمٌ استثنائي هو : عبد المسيح بن عسلة الغساني. شاعرٌ جاهلي، عربيٌ خالص النسب، لكنه مسيحي العقيدة، ينتمي إلى بني شيبان من بكر بن وائل، ويُنسب إلى أمه عسلة بنت عامر الغسانية، مما يجعل اسمه ذاته علامة على التعدد الثقافي والديني في الجاهلية.

المفارقة التي يحملها عبد المسيح ليست سطحية، بل عميقة: كيف لرجلٍ يُنسب إلى قبيلة عربية مقاتلة، ويكتب شعرًا جزيلًا في الفخر والبطولة، أن يحمل اسمًا مسيحيًا صريحًا في بيئة يغلب عليها الوثن؟ كيف استطاع أن يتكلم بلسان العرب، ويُعبّر عن ذاته دون أن يُخفي انتماءه الديني؟

لقد كتب شعرًا اختاره له المفضل الضبي في المفضليات، وقال فيه:

غَدَونا إِلَيهِم وَالسُيوفُ عِصِيُّنا بِأَيمانِنا نَفلي بِهِنَّ الجَماجِما

بيتٌ يُجسّد الفخر والقتال، لا يحمل أي إشارة دينية، لكنه يُقال من رجلٍ اسمه "عبد المسيح"، مما يُظهر أن الهوية الجاهلية كانت أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما يُظن.

قراءة عبد المسيح اليوم ليست مجرد استذكار لشاعرٍ منسي، بل هي نافذة لفهم التعدد الثقافي في الجاهلية، حيث كان العربي يُمكن أن يكون مسيحيًا، فارسًا، وشاعرًا، دون أن يُنكر ذاته أو يُخفي عقيدته. لقد كان تمثيلًا حيًّا للإنسان العربي قبل الإسلام، بكل ما فيه من تناقض وجمال وتعدد.

🧬 النسب والهوية: من شيبان إلى عسلة الغسانية

ينتمي عبد المسيح بن عسلة الغساني إلى قبيلة بني شيبان، إحدى بطون بكر بن وائل، وهي من القبائل العربية القوية التي كان لها حضور سياسي وعسكري في الجاهلية. أما نسبه الكامل، كما ورد في المصادر، فهو: عبد المسيح بن حكيم بن عفير بن طارق بن قيس بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

لكن المفارقة التي تميّزه عن غيره من شعراء بني شيبان، أنه نُسب إلى أمه، وهي عسلة بنت عامر بن شراكة الغسانية، ولهذا عُرف بـ"عبد المسيح بن عسلة". وهذا النسب الأمومي يُعد استثناءً في بيئة كانت تُفاخر بالنسب الأبوي، مما يُشير إلى مكانة أمه أو خصوصية هويته الدينية، إذ كانت عسلة من غسان، القبيلة المسيحية العربية التي سكنت الشام، مما يُفسّر اسمه المسيحي الصريح.

هذا التداخل بين النسب القبلي (شيباني) والنسب الأمومي (غساني مسيحي) يُجسّد هوية مركّبة: فهو عربي خالص النسب، لكنه مسيحي العقيدة، مما يجعله تمثيلًا حيًّا للتعدد الثقافي والديني في الجاهلية. لم يكن غريبًا عن قومه، ولم يُقصَ من الشعر، بل اختار له المفضل الضبي مقطوعات في المفضليات، مما يدل على أن الهوية الدينية لم تكن عائقًا أمام الحضور الأدبي.

🪶 الشعر: بين الفخر والقتال

شعر عبد المسيح بن عسلة الغساني لا يُشبه شعر الغزل ولا الحكمة، بل هو شعر الفخر والقتال، يُكتب من قلب فارس، ويُصاغ بلغة جزلة، تُجسّد البطولة لا التزيين. لقد اختار له المفضل الضبي مقطوعات في المفضليات، مما يدل على جزالة شعره، وخلوده في الذاكرة الأدبية رغم قلة الأخبار عنه.

من أبرز أبياته:

غَدَونا إِلَيهِم وَالسُيوفُ عِصِيُّنا بِأَيمانِنا نَفلي بِهِنَّ الجَماجِما

في هذا البيت، يُجسّد مشهدًا قتاليًا حيًا: غارة بالسيوف، وضرب بالرؤوس، وكأن القصيدة تتحوّل إلى ساحة معركة مصغّرة. لا زخرفة، بل فعل، لا وصفٌ ساكن، بل صورةٌ متحركة.

ويقول أيضًا:

أَلا يا اسلمي على الحوادث فاطما فإنكِ إن لم تسلمي الدهرَ يُسلمُكِ

هنا، ينتقل من الفخر إلى التحذير، ومن القتال إلى الحكمة، مما يُظهر أن شعره لا يخلو من بعد تأملي وإن كان جزيلًا ومباشرًا.

بلاغيًا، يتميز شعره بـ:

  • الصور الحركية: السيوف، الجماجم، الغارات، كلها تُجسّد الحركة.

  • الإيقاع القوي: بحور طويلة تُناسب الحماسة.

  • اللغة الجزلة: مفردات قوية، لا تهادن، ولا تتكلف.

ومن هنا فإن شعر عبد المسيح يجسد صوت الفارس المسيحي في الجاهلية، الذي لا يُخفي دينه، ولا يُنكر قبيلته، ويكتب شعرًا يُخلّد البطولة، لا يُخفي الانتماء. لقد جعل من القصيدة وثيقة فخرٍ لا تُفرّق بين العقيدة والقبيلة، بل تجمعهما في سطرٍ واحد.

✝️ الهوية الدينية: المسيحية في قلب الجاهلية

اسم عبد المسيح بن عسلة وحده يكشف عن هوية دينية واضحة وصريحة في بيئة يغلب عليها الطابع الوثني أو الغامض دينيًا. فهو شاعر جاهلي عربي، لكن اسمه يحمل دلالة مسيحية لا لبس فيها، مما يُجسّد حضور المسيحية العربية في قلب الجاهلية، لا على هامشها.

ينتمي عبد المسيح من جهة الأب إلى بني شيبان، ومن جهة الأم إلى عسلة الغسانية، وهي قبيلة عربية مسيحية عريقة، كانت تدين بـالمذهب المونوفيزي الذي يؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح وقد شكّل هذا المذهب جزءًا من الهوية السياسية والدينية للغساسنة، الذين كانوا حلفاء للإمبراطورية البيزنطية، ويُجسّدون نموذجًا للتعايش بين الدين والسياسة في المشرق العربي قبل الإسلام.

ورغم أن شعر عبد المسيح لا يحمل إشارات دينية مباشرة، إلا أن اسمه، ونسبه، وسياقه التاريخي يُظهرون أن المسيحية لم تكن غريبة عن العرب، بل كانت جزءًا من نسيجهم الثقافي والديني. لقد عاش في القرن السادس الميلادي، أي في زمن كانت فيه المسيحية قد ترسّخت في الشام والعراق والحجاز، وانتشرت بين القبائل العربية، خاصة الغساسنة والمناذرة.

رمزيًا، يُجسّد عبد المسيح بن عسلة الوجه المسيحي للجاهلية العربية، ذلك الذي لا يُخفي عقيدته، ولا يُنكر لغته، ولا يُقصى من الشعر. لقد كتب في الفخر والقتال، لا في الدين، لكنه حمل في اسمه علامة على التعدد الذي كان حاضرًا في الجاهلية، وإن غاب عن سردياتها الرسمية.

⚔️ البلاغة والتصوير: حين تُصبح القصيدة ساحة معركة

شعر عبد المسيح بن عسلة الغساني لا يكتفي بوصف القتال، بل يُحوّله إلى مشهد بصري حيّ، تُقاتل فيه الكلمات كما تُقاتل السيوف. لقد امتاز بأسلوب تصويري فريد، يُجسّد المعركة لا بوصفها حدثًا، بل بوصفها حالة شعورية تتفجّر في اللغة.

في إحدى قصائده، يقول:

غَدَونا إِلَيهِم وَالسُيوفُ عِصِيُّنا بِأَيمانِنا نَفلي بِهِنَّ الجَماجِما

هنا، لا يصف السيوف فقط، بل يُجسّدها كأدوات للضرب المباشر بالرؤوس، مما يُحوّل البيت إلى صورة دموية مشحونة بالحركة والضرب والنتيجة. الفعل "نفلي" يُوحي بالقوة، والجمجمة تُوحي بالنتيجة، وكأن القصيدة تُقاتل مع صاحبها.

وفي بيت آخر:

شَمِّرْ فَإِنَّكَ ماضِي الْهَمِّ شِمِّيرُ لا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ

هنا، يُخاطب النفس أو المحارب، ويحثه على الثبات، مما يُحوّل القصيدة إلى نداء تعبوي داخلي، لا مجرد وصف خارجي. البلاغة هنا ليست في الزينة، بل في التحريض، والتثبيت، والتصوير النفسي للمعركة.

تحليل بلاغي سريع:

  • الصور الحركية: "غدونا"، "نفلي"، "شمّر" كلها أفعال تُجسّد الحركة.

  • الإيقاع القوي: استخدام البحر الطويل والبسيط يمنح القصيدة امتدادًا نغميًا يناسب الحماسة.

  • المفردات الجزلة: "الجماجم"، "شمّر"، "تفريق"، كلمات قوية تُضفي على النص طابعًا قتاليًا لا غزليًا.

وعليه، فإن تصوير عبد المسيح للقتال يُجسّد التحوّل من الشعر إلى المعركة، ومن اللغة إلى السيف. لقد جعل من القصيدة ساحةً تُقاتل فيها الصور، وتنتصر فيها البلاغة، مما يُثبت أن الشعر الجاهلي لم يكن ترفًا، بل كان أداةً للتعبير عن القوة، والهوية، والانتماء.

📖 عبد المسيح في الذاكرة الأدبية

رغم أن عبد المسيح بن عسلة الغساني لم يُخلّد في المعلقات، إلا أن حضوره في كتب التراث كان لافتًا، وموزونًا بميزان الشعر الجزيل والفرادة الرمزية. فقد اختار له المفضل الضبي عدة أبيات في المفضليات، منها ما يُجسّد الفخر والقتال، مثل:

غَدَوْنا إِليهمْ والسُّيُوفُ عِصِيُّنَا بأَيْمَانِنا نَفْلي بِهِنَّ الجمَاجِمَا

كما وردت له أبيات أخرى تُظهر بلاغة تصويرية نادرة، مثل:

لعَمْري لأَشْبَعْنَا ضِبَاعَ عُنَيْزَةٍ إِلى الْحَوْل مِنْها والنُّسُورَ القَشَاعِمَا

هذه الأبيات تُجسّد كيف تحوّلت المعركة في شعره إلى مشهد حيّ، وكيف استخدم الضباع والنسور والذئاب بوصفها رموزًا للدم والبطولة، مما يُضفي على شعره طابعًا تصويريًا لا يُشبه شعر الغزل أو الحكمة.

ورغم هذا الحضور، فإن عبد المسيح غاب عن المعلقات، ولم يُذكر كثيرًا في كتب مثل الأغاني، مما يُثير سؤالًا نقديًا: هل غيابه كان بسبب تهميش ديني؟ أم أنه يُمثّل خصوصية فنية، حيث لم يكن من شعراء التفاخر أو التكسّب، بل من شعراء التجربة القتالية الصافية؟

الراجح أن عبد المسيح لم يكن شاعرًا مناسبات، بل كان شاعر موقف وهوية، كتب من قلب المعركة، لا من بلاط الملوك، مما جعله أقرب إلى الشعراء الذين يُخلّدهم الصدق لا الشهرة.

🏛️ خاتمة: عبد المسيح بوصفه تمثيلًا للتعدد الثقافي في الجاهلية

في شخصية عبد المسيح بن عسلة الغساني، تتجسّد مفارقة نادرة في تاريخ العرب قبل الإسلام: شاعرٌ جاهلي، عربي النسب، مسيحي العقيدة، فارسٌ يكتب عن القتال، لا عن الدين، لكنه يحمل في اسمه وفي نسبه علامة على التعدد الذي كان حاضرًا في الجاهلية، وإن غاب عن سردياتها الرسمية.

لقد كتب شعرًا جزيلًا، اختير في المفضليات، يُجسّد البطولة والدم، ويصف الضباع والنسور والذئاب، لا بوصفها رموزًا دينية، بل بوصفها أدوات تصويرية في ساحة المعركة. ومع ذلك، لم يُقصَ من الذاكرة الأدبية، بل خُلّد بوصفه شاعرًا من بني شيبان، نُسب إلى أمه الغسانية، وحمل اسمًا مسيحيًا صريحًا.