--> -->

عبد يغوث الحارثي: شاعر اللحظة الأخيرة في الجاهلية

author image

رسم فني واقعي لفارس عربي أسير يرتدي عمامة بيضاء وعباءة حمراء، ينظر بحزن نحو الأفق داخل خيمة صحراوية، وسيفه معلّق في الخلفية، يُجسّد عبد يغوث الحارثي شاعر اللحظة الأخيرة في الجاهلية.

🗡️ مدخل تمهيدي: حين يُكتب الشعر من حافة الموت

في تاريخ الشعر الجاهلي، كثيرون خُلّدوا بالمعلقات، وقليلون خُلّدوا بلحظة واحدة. من بين هؤلاء، يبرز عبد يغوث بن الحارث الحارثي، لا بوصفه شاعرًا مكثرًا، ولا فارسًا منتصرًا، بل بوصفه رجلًا قال أعظم شعره وهو أسير ينتظر القتل. لقد تحوّلت لحظة الانكسار إلى لحظة الخلود، وتحول النزف إلى قصيدة، والخذلان إلى مرآة.

كان عبد يغوث فارسًا من بني الحارث بن كعب، قاد قومه في وقعة الكلاب الثانية، فانهزموا، وأُسر، ورفضت تميم فداءه. لم يكن قاتل فارسهم، لكنه كان سيدًا، فكان الثأر فيه أشهى. طلب أن يُطلق لسانه ليقول شعرًا قبل أن يُقتل، ففعلوا، وسقوه الخمر، ثم تركوه ينزف حتى الموت. وفي تلك اللحظة، قال قصيدته الشهيرة التي تبدأ بـ:

أَلا لا تَلُومَانِي كَفَى اللَّوْمَ مَا بِيَـا وَمَا لَكُمَا فِي اللَّوْمِ خَيْـرٌ وَلا لِيَـا

هنا، تتجلّى المفارقة: فارسٌ يُكتب عنه لا لأنه قاتل، بل لأنه قال؛ لا لأنه انتصر، بل لأنه اعترف. لقد خُلّد لا بسيفه، بل بصوته، لا ببطولته، بل بضعفه النبيل.

رمزيًا، يُجسّد عبد يغوث الوجه الآخر للبطولة الجاهلية: ذلك الذي لا يُفاخر، بل يُعاتب؛ لا يُخفي الندم، بل يُفصح عنه؛ لا يُنكر الخذلان، بل يُحوّله إلى شعر. لقد أعاد تعريف الرجولة في الجاهلية، فجعلها قادرة على البكاء، لا فقط على القتال.

وهكذا، فإن قصيدته ليست مجرد نص، بل هي وثيقة وجدانية تُثبت أن الشعر الجاهلي كان مرآةً للبطولة والضعف معًا، وأن الإنسان العربي قبل الإسلام كان يحمل في قلبه من التناقض ما يُثري الشعر، ويُخلّد اللحظة، ويُعيد تعريف المجد.

🧬 النسب والهوية: من بني الحارث بن كعب إلى مذحج

ينتمي عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة الحارثي إلى قبيلة بني الحارث بن كعب، إحدى بطون مذحج، وهي من القبائل اليمنية العريقة التي استوطنت نجران، وكانت تُعد من جمرة العرب، أي من القبائل الثلاث التي لم تتفكك عبر التاريخ. هذا الانتماء يمنحه جذورًا في عرب الجنوب، حيث يلتقي النسب القحطاني بالفروسية والبلاغة.

كان عبد يغوث سيدًا في قومه، وفارسًا معدودًا، وقائدًا في المعارك، وقد قاد بني الحارث في وقعة الكلاب الثانية ضد بني تميم، مما يُظهر مكانته القيادية في زمنٍ كانت الزعامة تُنتزع بالسيف، لا تُمنح بالوراثة. وقد وصفه المؤرخون بأنه جميل الهيئة، عظيم الجسم، كريم النفس، شجاع القلب، مما يجعله نموذجًا للفارس الجاهلي الكامل.

لكن نسبه لا يُقرأ بوصفه سلسلة أسماء، بل بوصفه بنية رمزية تُجسّد التوتر بين المجد والخذلان. لقد ورث السيادة، لكنه خُلّد بالأسر؛ حمل اسمًا من قبيلة قوية، لكنه مات مقيدًا؛ كان من أهل نجران، لكنه دُفن في وادي الكلاب. هذه المفارقة تُحوّل النسب من شجرة إلى سؤال: هل يكفي المجد القبلي لحماية الفرد من مصيره؟

رمزيًا، يُجسّد نسب عبد يغوث التحوّل من الزعامة الوراثية إلى البطولة الفردية، ومن الفخر الجماعي إلى الشعر الشخصي. لقد كان من بني الحارث، لكنه كتب عن نفسه، لا عن قبيلته؛ وكان من مذحج، لكنه خُلّد بوصفه رجلًا قال الحقيقة في لحظة الموت.

وهكذا، فإن نسب عبد يغوث ليس مجرد خلفية، بل هو عدسة لفهم كيف أن الجاهلية كانت زمنًا تتصارع فيه القبيلة مع الفرد، والمجد مع الضعف، والاسم مع المصير.

⚔️ يوم الكلاب الثاني: من القيادة إلى الأسر

في قلب الصراع بين قبائل العرب، وقعت وقعة الكلاب الثانية بين مذحج بقيادة عبد يغوث الحارثي، وبني تميم، في معركةٍ كانت امتدادًا لصراعات الجاهلية حول السيادة والكرامة. جمع عبد يغوث جموع مذحج من اليمن، وسار بهم نحو تميم، لكنه لم يكن يعلم أن هذه المعركة ستخلّده لا بوصفه قائدًا منتصرًا، بل أسيرًا يكتب الشعر من حافة الموت.

انهزمت مذحج، وقُتل من الفريقين عدد كبير، وكان من بين القتلى فارس تميم: النعمان بن مالك بن الحارث بن جساس. أُسر عبد يغوث، ولم يكن هو قاتل النعمان، لكنه كان سيدًا، فقررت تميم أن تقتله به، قائلة: "قتل فارسنا، ولم يُقتل لكم فارس مذكور".

شدّوا لسانه حتى لا يهجوهم، ثم طلب منهم أن يُطلقوه ليقول شعرًا، ويذم قومه، وينوح على نفسه، ويُقتل قتلة كريمة. فاستجابوا له، وسقوه الخمر، وقطعوا له عرقًا يُسمى الأكحل، وتركوه ينزف حتى الموت.

في تلك اللحظة، قال قصيدته الخالدة:

أَلا لا تَلُومَانِي كَفَى اللَّوْمَ مَا بِيَـا وَمَا لَكُمَا فِي اللَّوْمِ خَيْـرٌ وَلا لِيَـا

ثم قال:

وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرًا يمانيا

لقد تحوّلت المعركة إلى مرآة للخذلان، وتحول الأسر إلى منصة للبوح، وتحول عبد يغوث من قائد إلى شاعر، ومن سيد إلى ضحية، ومن فارس إلى شاهد على هشاشة المجد.

من الناحية الرمزية، يُجسّد يوم الكلاب الثاني التحوّل من البطولة الجماعية إلى المأساة الفردية، ومن الفخر القبلي إلى الشعر الشخصي، ومن السيف إلى القصيدة. لقد خُلّد عبد يغوث لا لأنه انتصر، بل لأنه قال الحقيقة حين صمت الجميع.

🪶 القصيدة: رثاء النفس ولوم القبيلة

قصيدة عبد يغوث الحارثي ليست مجرد نص شعري، بل هي صرخة وجودية من قلب الأسر، تُجسّد لحظة الانكسار النبيل، وتحوّل الفخر إلى تأمل، والخذلان إلى فن. قالها وهو ينزف، بعد أن قطعوا عرقه الأكحل، وسقوه الخمر، وتركوه يواجه الموت بلسانه لا بسيفه. فكانت قصيدته واحدة من أعظم ما قيل في الجاهلية في رثاء النفس ولوم القبيلة.

تبدأ القصيدة بنداء داخلي:

أَلا لا تَلُومَانِي كَفَى اللَّوْمَ مَا بِـيَـا وَمَا لَكُمَا فِي اللَّوْمِ خَيْرٌ وَلا لِيَـا

هنا، يُعلن عبد يغوث أنه تجاوز مرحلة اللوم، وأن ما فيه من ألم يكفيه، فلا حاجة لعتاب الآخرين. ثم ينتقل إلى لوم قومه الذين خذلوه، ويُعاتبهم على تركه في الأسر، ويُفاخِر بماضيه، ويطلب قتلة كريمة بدلًا من الإهانة.

يقول:

فَإِنْ تَقْتُلُونِي تَقْتُلُوا بِيَ سَيِّدًا وَإِنْ تُطْلِقُونِي تَحْرُبُونِي بِمَالِيَـا

ويصف كيف تضحك منه امرأة عبشمية، وكيف تحيط به نساء الحي، وكأن الأسر كشف هشاشة المجد الذكوري في الجاهلية، حين يُصبح الفارس موضوعًا للشفقة أو السخرية.

وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرًا يمانيا

ثم يُفاخِر بنفسه، ويستعرض ماضيه:

وقد كنت نحّار الجزور ومعمل الـ مطيّ، وأمضي حيث لا حيّ ماضيا

هنا، يُحوّل القصيدة إلى سجل ذاتي للبطولة المنسية، ويُعيد تعريف الرجولة بوصفها قدرة على الاعتراف، لا على الإنكار.

بلاغيًا، تُجسّد القصيدة:

  • الصدق العاطفي: لا تزيين، بل اعتراف.

  • المفارقة الزمنية: بين الماضي المجيد والحاضر المهين.

  • الصور الحركية: النساء، السيوف، الخيل، كلها تتحرك في النص.

  • الإيقاع الحزين: بحر الطويل يمنح القصيدة امتدادًا نغميًا يناسب الرثاء.

🎨 البلاغة والتصوير: حين تُصبح القصيدة مرآة للانكسار النبيل

قصيدة عبد يغوث الحارثي ليست مجرد رثاء للنفس، بل هي ما وصفه النقاد بـ"قصيدة الروح"، لأنها كُتبت في لحظة خروجها من الجسد، حين كان الشاعر ينزف بعد أن قُطع عرقه الأكحل، وسُقي الخمر، وتركوه يواجه الموت بالكلمات لا بالسيف. هذه القصيدة تُجسّد كيف يمكن للبلاغة أن تُحوّل الانكسار إلى فنٍ خالدٍ لا يُنسى.

من الناحية البلاغية، تنقسم القصيدة إلى معاقد شعورية، كل منها يُجسّد تحولًا داخليًا:

  • اللوم والندم: يبدأ الشاعر برفض اللوم، وكأنه يُعلن أن ما فيه من ألم يكفيه، مما يُضفي على النص طابعًا اعترافيًا لا دفاعيًا.

  • الفخر والخذلان: يستعرض ماضيه المجيد، ويُقارن بين ما كان عليه وما آل إليه، مما يُجسّد المفارقة الزمنية بوصفها أداة بلاغية.

  • النساء والعار: يصف كيف تضحك منه امرأة عبشمية، وكيف يُصبح موضوعًا للسخرية، مما يُحوّل القصيدة إلى نقد اجتماعي ضمني لمفهوم الرجولة الجاهلية.

  • الطلب الأخير: يطلب قتلة كريمة، لا شفقة، مما يُظهر أن الكرامة عنده أهم من الحياة، وأن الشعر هو وسيلته الأخيرة لحفظها.

الصور الشعرية في القصيدة ليست زخرفية، بل حركية ومشحونة بالانفعال:

  • "نفلي بهن الجماجما" تُجسّد الضرب المباشر.

  • "شيخة عبشمية تضحك مني" تُجسّد الانكسار الاجتماعي.

  • "كنت نحّار الجزور ومعمل المطيّ" تُجسّد الفخر العملي لا النظري.

الإيقاع في القصيدة يعتمد على بحر الطويل، الذي يمنحها امتدادًا نغميًا يناسب الحزن والتأمل، ويُضفي على النص طابعًا جنائزيًا دون أن يفقده القوة.

وهكذا، فإن بلاغة القصيدة لا تكمن في زخرفتها، بل في صدقها، ومفارقتها، وقدرتها على تحويل الضعف إلى خلود. لقد أصبحت مرآة للانكسار النبيل، ودليلًا على أن الشعر الجاهلي كان أعمق من أن يُختزل في الفخر والغزل.

📚 عبد يغوث في الذاكرة الأدبية

رغم أن عبد يغوث الحارثي لم يكن من أصحاب المعلقات، إلا أن قصيدته التي قالها وهو ينزف في الأسر حجزت له مكانًا فريدًا في الذاكرة الأدبية الجاهلية. لقد خُلّد لا بكثرة شعره، بل بفرادته الشعورية وبلاغته في لحظة الموت، مما جعله نموذجًا للشاعر الذي يُكتب عنه لأنه صدق، لا لأنه أكثر.

في المفضليات، اختار له المفضل الضبي قصيدته الشهيرة، وافتتحها بالبيت:

أَلا لا تَلُومَانِي كَفَى اللَّوْمَ مَا بِيَـا

وهذا الاختيار يُظهر أن النقاد القدماء رأوا في شعره قيمة فنية وإنسانية تتجاوز عدد الأبيات أو شهرة الاسم. لم يكن عبد يغوث من شعراء البلاط، بل من شعراء اللحظة، الذين يُخلّدهم موقف واحد، حين يتحوّل النزف إلى نص.

أما في الأغاني، فقد وردت قصته كاملة، بما فيها تفاصيل أسره، وسخرية امرأة عبشمية منه، ومحاولته الفداء، وطلبه قتلة كريمة، مما يُظهر أن الذاكرة الأدبية لم تُقصِه، بل احتفت به بوصفه شاعرًا مأساويًا فريدًا.

ورغم ذلك، فإن غيابه عن المعلقات يُثير سؤالًا نقديًا: هل كان ذلك تهميشًا بسبب قلة الإنتاج؟ أم أن قصيدته كانت من القوة بحيث لا تحتاج إلى معلقة لتُخلّد؟ الراجح أن عبد يغوث يُمثّل خصوصية فنية لا تُقاس بالكم، بل باللحظة. لقد كتب من قلب الأسر، لا من قلب القبيلة، ومن حافة الموت، لا من ساحة الفخر، مما جعله أقرب إلى الشعراء الذين يُخلّدهم الصدق لا التفاخر.

رمزيًا، فإن حضوره في الذاكرة الأدبية يُجسّد الوجه الآخر للشعر الجاهلي: ذلك الذي لا يُفاخر، بل يُعاتب؛ لا يُنكر الضعف، بل يُخلّده؛ لا يُكتب من أجل المجد، بل من أجل الحقيقة.

وهكذا، فإن عبد يغوث الحارثي يُعد من الشعراء الذين أعادوا تعريف البطولة في الجاهلية، فجعلوها قادرة على البكاء، لا فقط على القتال.

🏛️ خاتمة: عبد يغوث بوصفه تمثيلًا للبطولة المهزومة في الجاهلية

في شخصية عبد يغوث الحارثي، تتجسّد أحد أكثر المفارقات درامية في الشعر الجاهلي: فارسٌ من بني الحارث بن كعب، قائدٌ في يوم الكلاب الثاني، يُؤسر ويُقتل، لكنه يخلّد نفسه لا بسيفه، بل بقصيدة قالها وهو ينزف، يطلب فيها قتلة كريمة، ويعاتب قومه، ويصف كيف ضحكت منه امرأة عبشمية.

لقد تحوّلت لحظة موته إلى وثيقة وجدانية نادرة، تُجسّد البطولة المهزومة، والكرامة المهددة، والصدق الذي لا يُخفي الضعف. لم يكن عبد يغوث شاعرًا مكثرًا، لكنه كان شاعر اللحظة الحاسمة، الذي قال ما لا يُقال، حين صمت الجميع.

رمزيًا، يُمثّل عبد يغوث تحوّلًا في مفهوم البطولة الجاهلية: من الفخر الصاخب إلى التأمل الصادق، من تمجيد القبيلة إلى نقدها، من الزهو إلى الاعتراف. لقد كتب عن نفسه، لا عن قومه؛ وعن ألمه، لا عن انتصاره؛ وعن لحظة موته، لا عن لحظة مجده.

وهكذا، فإن إعادة قراءة عبد يغوث اليوم ليست مجرد استذكار لشاعر منسي، بل هي دعوة لفهم الشعر الجاهلي بوصفه مرآة لتحولات الإنسان العربي قبل الإسلام. لقد كان الشعر عنده وسيلة للبوح، لا للمباهاة؛ وللحقيقة، لا للزينة؛ وللخلود، لا للنجاة.

لقد خُلّد عبد يغوث لأنه أفصح حين خاف، وكتب حين نزف، وواجه الموت بالشعر لا بالصمت. وهذا ما يجعل قصيدته درسًا في أن البطولة لا تُقاس بالانتصار، بل بالصدق في لحظة الانكسار.