--> -->

أكثم بن صيفي التميمي | حكيم العرب في الجاهلية والإسلام وأشهر أقواله

 رجل عربي مسن يجلس في مجلس صحراوي، يرتدي عمامة وثوبًا تقليديًا، يحمل لفافة مكتوبة، ويحيط به ثلاثة رجال يستمعون إليه باهتمام، مع خلفية من الكثبان الرملية ومئذنة بعيدة في الأفق.

1️⃣ تعريف موجز بأكثم بن صيفي

في قلب الصحراء العربية، قبل أن يسطع نور الإسلام، برز رجلٌ لا يحمل سيفًا ولا يعتلي جوادًا، بل كان سلاحه الكلمة، ودرعه الحكمة. أكثم بن صيفي التميمي، أحد أعمدة الفصاحة في الجاهلية، عُرف ببلاغته التي تخترق القلوب، ورأيه الذي يُرجع إليه في الملمات. لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا فحسب، بل كان مرجعًا في العقل والرأي، يُستشار في الأمور العظام، ويُروى عنه القول البليغ.

لقبه: حكيم العرب

لم يُمنح أكثم بن صيفي لقبه من فراغ، بل استحقه عن جدارة. "حكيم العرب" لم يكن مجرد لقب تشريفي، بل اعتراف جماعي بمكانته الفكرية. كانت مجالسه أشبه بمدارس الحكمة، يتوافد إليها الأعيان والفرسان، يستمعون إلى كلماته التي تجمع بين الإيجاز والعمق، وبين التجربة والبصيرة. أقواله لم تكن تُقال لتُنسى، بل لتُروى وتُتداول عبر الأجيال.

مكانته في الجاهلية والإسلام

في زمن الجاهلية، كان أكثم صوت العقل وسط ضجيج العصبية، يُرجع إليه في الخصومات، ويُحتكم إلى رأيه في النزاعات. وعندما بزغ فجر الإسلام، لم يُقصِه التاريخ، بل احتفظ له بمكانة خاصة. يُقال إنه أدرك الإسلام، وإن لم يُسلم، فقد ظل يُذكر في مجالس المسلمين كرمز للحكمة والقول السديد. مكانته تجاوزت الزمان، فصار يُستشهد بكلامه في كتب الأدب، ويُضرب به المثل في الفطنة والحنكة.

2️⃣ النسب والقبيلة

لم يكن أكثم بن صيفي مجرد اسم في سجل التاريخ، بل سليل نسبٍ عريق يمتد جذوره في عمق الصحراء العربية. هو أكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، من قبيلة بني تميم، إحدى أعرق قبائل مضر العدنانية. هذا النسب لم يمنحه فقط شرف الانتماء، بل حمّله إرثًا من الفصاحة، والنجدة، والرأي السديد. فبنو تميم كانوا أهل منطق وسداد، وأكثم كان تجسيدًا حيًا لهذه الصفات، حتى صار علمًا يُشار إليه بالبنان، لا لدمه فحسب، بل لحكمته التي فاقت الأقران.

3️⃣ صفاته وشخصيته

كان أكثم بن صيفي رجلًا تتقاطع فيه صفات الحكماء والخطباء والشعراء والقضاة، وكأنما اجتمعت فيه مواهب العرب كلها. فصيح اللسان، حاضر البديهة، لا يتكلم إلا بما يزن من القول، ولا يُلقي خطبة إلا وتُروى بعدها كأنها من درر البيان. كان يُستشار في الخصومات، ويُحتكم إليه في المعضلات، حتى صار قاضيًا قبل أن تُعرف المحاكم، وحكيمًا قبل أن تُكتب الكتب. كلماته لم تكن مجرد أقوال، بل أمثال تُضرب، مثل قوله الخالد: "الحق أبلج والباطل لجلج"، الذي اختصر فيه فلسفة العدالة بكلمة واحدة. وقد عاش أكثم عمرًا مديدًا بلغ 190 سنة، فكان من المعمرين الذين شهدوا تحولات العرب من الجاهلية إلى مشارف الإسلام، وظل صوته الحكيم حاضرًا في كل مرحلة، كأنما الزمن نفسه كان يستأنس ببقائه.

4️⃣ دوره السياسي والاجتماعي

لم يكن أكثم بن صيفي مجرد حكيم يُستأنس برأيه، بل كان ركيزة سياسية واجتماعية يُرجع إليها في الملمات، ويُستشار في الأمور العظام. إذا نطق، أُصغيت له القبائل، وإذا حكم، نُفذ قوله دون تردد. مكانته تجاوزت حدود قومه، فكان من بين من اختيروا لتمثيل العرب أمام ملوك فارس، وهناك وقف أمام كسرى، لا مترددًا ولا متلعثمًا، بل خطيبًا مفوهًا أبهر الحاشية بفصاحته، حتى قيل إن كسرى لم يسمع مثلها من قبل. وفي يوم الكلاب الثاني، حين احتدمت المعركة بين بني تميم وبكر، أشار أكثم على قومه برأي سديد، فكان النصر حليفهم، والفضل يُنسب لحكمته. دوره لم يكن صوتًا في مجلس، بل فعلًا يُغير مجرى الأحداث، ويُثبت أن الحكمة ليست قولًا فقط، بل بصيرة تُنقذ وتنتصر.

5️⃣ لقاؤه بالنبي محمد ﷺ

حين بزغ نور النبوة في مكة، لم يكن أكثم بن صيفي غافلًا عن هذا الحدث العظيم. فبعين الحكيم وقلب المتبصر، أرسل ابنه حبيش ليستقصي أمر محمد ﷺ، لا بدافع الريبة، بل بدافع الفهم والتثبت. وعندما بلغه خبر النبوة، لم يتردد، بل جمع قومه وخطب فيهم داعيًا إلى الإسلام، بكلماتٍ تحمل صدق الإيمان ونضج العقل. ثم قرر أن يخرج بنفسه إلى مكة، ومعه مئة رجل من بني تميم، قاصدًا لقاء النبي ﷺ، لكن القدر سبق اللقاء، إذ توفي عطشًا في الطريق، تاركًا وصية خالدة لقومه: اتبعوا هذا النبي، فإنه يدعو إلى الحق. رحيله قبل اللقاء لم يُطفئ أثره، بل زاد من رمزية موقفه، فكان أكثم أول من آمن بعقله، قبل أن يرى بعينه، وأول من أوصى بالإسلام قبل أن يُسلم، فخلّده التاريخ في سجل السابقين بالحكمة والبصيرة.

6️⃣ وفاته

في طريقه إلى مكة، وبين رمال الصحراء الممتدة، توقف قلب الحكيم الذي طالما نبض بالحكمة والرأي السديد. أكثم بن صيفي، الذي حمل في صدره شوقًا للقاء النبي ﷺ، توفي عطشًا قبل أن يبلغ مبتغاه، وكأن الأرض نفسها أرادت أن تحتفظ بسرّ هذا اللقاء. ورغم أن جسده لم يصل، فإن روحه سبقت، ووصيته لقومه باتباع النبي ﷺ كانت كأنها بيعة من بعيد. وقد قيل إن في شأنه نزل قول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ [يس: 20] فكان أكثم مثالًا للرجل الذي يسعى للحق، ولو من أقصى الأرض، ويُخلّد في القرآن رمزًا للصدق والبصيرة، حتى وإن لم يُكتب له اللقاء.

7️⃣ أقواله وحكمه

لم تكن كلمات أكثم بن صيفي مجرد عبارات تُقال، بل كانت مرايا تعكس عقلًا ناضجًا وتجربة عميقة في الحياة. حكمته كانت تُختصر في جُمل، لكنها تحمل من المعاني ما يفوق المجلدات. قال: "الحق أبلج والباطل لجلج"، فاختصر الصراع الأزلي بين النور والظلام بكلمتين، تُردد حتى اليوم في مجالس العقلاء. ونصح بقوله: "كن بارًا وبليغًا"، فجمع بين الأخلاق والبيان، وكأنما يُرشد الإنسان إلى أن الفضيلة لا تكتمل إلا بالفصاحة. وفي لحظة صدق، قال: "قل الحقيقة، حتى لو نفرت الأصدقاء"، ليؤكد أن الصدق أثمن من المجاملة، وأن الحكيم لا يساوم على الحق. أما قوله: "تجنب البكاء العقيم وركز على الحلول العملية"، فهو درس في الواقعية، يُعلمنا أن الحكمة ليست في الحزن، بل في الفعل، وأن العقل لا يضيع وقته في الندم، بل في الإصلاح. هكذا كانت أقواله، تُضيء الطريق لمن أراد أن يفهم الحياة، لا أن يهرب منها.

8️⃣ أثره وإرثه

لم يكن أكثم بن صيفي مجرد حكيم عاش في الجاهلية، بل كان بذرة فكرٍ نمت في وجدان العرب، وظلت تُثمر عبر الأجيال. يُعد من أبرز حكماء العرب، ليس لأنه قال، بل لأن ما قاله بقي. تناقلت القبائل حكمه كما تُتناقل الأنساب، ووجدت كلماته طريقها إلى كتب الأدب، ومجالس الفقه، وخطب البلغاء. أثره لم ينتهِ بوفاته، بل امتد في الفكر العربي، حتى صار مرجعًا في الفصاحة والحكمة، يُستشهد به في المواقف التي تحتاج إلى عقل راجح ولسان صادق. ولم يكن إرثه معنويًا فقط، بل ترك عقبًا في الكوفة، من بينهم حمزة الزيات، صاحب كتاب القراءة، الذي حمل مشعل العلم في عصر آخر، وكأن الحكمة تجري في دمه كما جرت في دم أكثم. هكذا ظل أكثم حيًا، لا في جسده، بل في أثره، وفي كل كلمة تُقال وتُروى عنه، كأنها لا تزال تُنطق بصوته.

9️⃣ خاتمة

كان أكثم بن صيفي التميمي أكثر من مجرد رجل عاش في الجاهلية؛ كان صوتًا للعقل وسط ضجيج القبائل، ورمزًا للحكمة قبل أن تُدوّن في الكتب. جمع بين البلاغة والشجاعة، وبين الفصاحة والبصيرة، فصار مثالًا يُحتذى لمن أراد أن يفهم كيف تُصنع الهيبة بالكلمة لا بالسيف. إرثه لم يُدفن في الصحراء، بل بقي حيًا في كتب الأدب والتاريخ، يُروى في المجالس، ويُستشهد به في الخطب، وكأنما كان من الذين مهدوا لانتشار الإسلام بالحكمة، لا بالجدال. أكثم هو ذلك الرجل الذي آمن بالعقل، وسبق بقلبه نور النبوة، فخلّده التاريخ لا لأنه عاش طويلًا، بل لأنه فكّر عميقًا، وقال صدقًا، ومات وهو يسعى إلى الحق.