--> -->

الفند الزماني: فارس بكر بن وائل وشاعر حرب البسوس الجاهلي

author image

رسم زيتي بأسلوب استشراقي يصوّر الفِند الزِّمّاني، فارسًا عربيًا مسنًا يمتطي جوادًا عربيًا بنيًا في صحراء اليمامة عند الغروب، يرتدي درعًا تقليديًا وعمامة بيضاء، ممسكًا برمح طويل وسيف معقوف، وتعلو ملامحه تعبيرات القوة والكرامة، في مشهد يُجسّد البطولة الجاهلية في حرب البسوس

📝 مقدمة تعريفية

يُعد الشعر الجاهلي من أبرز أدوات العرب في توثيق الصراعات القبلية ومفاهيم البطولة والكرامة، إذ لم يكن مجرد فن لغوي، بل سجلًا حيًّا يُعبّر عن مواقف القبائل، ويُخلّد لحظات الفخر والانتصار والرفض. ومن بين الشخصيات التي جسّدت هذه الروح، يبرز اسم الفِند الزِّمّاني، فارسًا وشاعرًا من بني بكر بن وائل، جمع بين القول والسيف، وارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بـحرب البسوس، إحدى أشهر الحروب في تاريخ العرب قبل الإسلام.

لم يكن الفِند شاعرًا عابرًا، بل كان قائدًا ميدانيًا، يُجسّد في شعره مواقف قومه، ويُعبّر عن روح المواجهة والاعتداد، حتى قيل إنه يُعد بألف رجل، رغم تقدّمه في السن. وقد تحوّلت قصائده إلى وثائق حماسية تُضيء جوانب من الصراع القبلي، وتُبرز كيف كانت الكلمة في الجاهلية امتدادًا للرمح والسيف.

🧬 النسب والهوية القبلية

ينتمي الفِند الزِّمّاني إلى قبيلة بكر بن وائل، إحدى القبائل العدنانية الكبرى التي كان لها حضور بارز في الجاهلية وصدر الإسلام. اسمه الكامل هو: شَهل بن شيبان بن ربيعة من بني زمان بن مالك بن بكر بن وائل، ويُعد من بطون بني حنيفة، وقد عاش في اليمامة، وهي من المواطن التي اشتهرت بالفرسان والشعراء.

لقّب بـ"الفِند"، وهو اسم يُطلق على قطعة عظيمة من الجبل، وقد جاء اللقب من قوله لأصحابه في إحدى المعارك:

"استندوا إليّ فإني لكم فِند" في إشارة إلى قوته الجسدية وصلابته في القتال، حتى قيل إنه يُعد بألف رجل رغم تقدّمه في السن، إذ عاش نحو مئة سنة.

هذا النسب لم يكن مجرد خلفية، بل انعكس في شخصيته التي جمعت بين القيادة القبلية، والفروسية، والشعر الحماسي، مما جعله من أبرز رموز قبيلة بكر في حرب البسوس، ومن الشخصيات التي تُجسّد البطولة الجاهلية في أبهى صورها.

⚔️ سيرته القتالية

ارتبط اسم الفِند الزِّمّاني ارتباطًا وثيقًا بـحرب البسوس، تلك الحرب القبلية الضارية التي دامت أربعين عامًا بين قبيلتي بكر وتغلب، وشكّلت منعطفًا في تاريخ العرب قبل الإسلام. ورغم أن الفِند كان قد بلغ من العمر ما يُقارب المئة سنة، إلا أنه شارك في المعارك وأبلى فيها بلاءً حسنًا، مما جعله يُعد بألف رجل في نظر قومه.

من أبرز أيام الحرب التي شهدها يوم تحلاق اللمم، وهو اليوم الذي ذكره الشاعر طرفة بن العبد في شعره، دلالة على أهميته التاريخية. وقد أُرسل الفِند في هذا اليوم مع سبعين رجلًا من بني حنيفة لنصرة بني شيبان، فقيل للخصوم:

"بعثنا إليكم بألف رجل" في إشارة إلى قوة الفِند الشخصية ومهابته القتالية، حيث كان يُمثّل ثقلًا رمزيًا ومعنويًا يفوق العدد.

سيرته القتالية لا تنفصل عن شخصيته الشعرية، بل تُكمل صورته كشاعر فارس، يُجسّد في شعره الكرامة القبلية، والبطولة الفردية، والموقف الحاد، مما يجعله من أبرز رموز قبيلة بكر بن وائل في الجاهلية، ومن الشخصيات التي تُجسّد البطولة العربية في أبهى صورها.

🎙️ شعره وخصائصه الفنية

رغم أن شعر الفِند الزِّمّاني لم يُجمع في ديوان مستقل، إلا أن له حضورًا موثّقًا في مختارات الشعر الجاهلي، حيث وردت له أبيات في كتب مثل "المفضليات" لأبي العباس المفضل الضبي، و"ديوان الحماسة" لأبي تمام، مما يدل على مكانته بين شعراء الحماسة والفخر في الجاهلية.

ويتميّز شعره بعدة خصائص فنية بارزة:

  • الجزالة والقوة: لغته متينة، تخلو من التكلّف، وتُعبّر عن موقف قتالي حاد.

  • الصور الحربية: يُجسّد المعارك والمواقف القتالية بصور حية، تُظهر الفروسية والكرّ والفرّ.

  • الاعتداد بالنفس والقبيلة: يفيض شعره بالفخر، ويُبرز مكانة بكر بن وائل في مواجهة تغلب.

  • الحكمة والتحريض: لا يكتفي بالوصف، بل يُحرّض قومه، ويُقدّم رؤى قيادية في لحظات التوتر.

ومن أشهر أبياته التي تُجسّد موقفه في الحرب، قوله:

"فلما صرّح الشر فأمسى وهو عريان ولم يبقَ سوى العدوان دناهم كما دانوا"

هذه الأبيات تُظهر قدرة الفِند على تصوير لحظة الانكشاف الكامل للعداوة، وتحريض قومه على الرد بالمثل، في لغة جزلة تُجسّد روح المواجهة الجاهلية.

شعر الفِند الزِّمّاني لا يُقرأ بوصفه وصفًا ساكنًا، بل بوصفه موقفًا شعريًا يُعبّر عن لحظة تاريخية مشبعة بالصراع والكرامة، مما يجعله من أبرز شعراء الجاهلية الذين امتزجت فيهم القصيدة بالفعل.

📚 مكانته في الأدب الجاهلي

يُعد الفِند الزِّمّاني من سادة قبيلة بكر بن وائل، وفارسها وشاعرها في زمانه، وقد جمع بين القيادة القتالية والقول الشعري، مما جعله نموذجًا فريدًا في الأدب الجاهلي. لم يكن مجرد شاعر يصف المعارك من بعيد، بل كان صانعًا لها، يُشارك في ميادينها، ويُعبّر عنها بلغة جزلة تُجسّد روح المواجهة والاعتداد.

ورد ذكره في عدد من المصادر الأدبية والمعرفية مثل ويكيبيديا، وموسوعة الأدب العربي، وموقع الشعر العربي، مما يُؤكّد حضوره في الذاكرة الثقافية، ويُثبت أن أثره الشعري لم يكن عابرًا، بل امتد ليُشكّل جزءًا من سجل الشعر الحماسي الذي يُستشهد به في دراسات البطولة والفروسية.

ويُعد شعره نموذجًا لما يُعرف بـ"الشاعر الفارس"، الذي لا يفصل بين القصيدة والسيف، ويُعبّر عن لحظة تاريخية مشبعة بالصراع والكرامة، مما يجعله من الأصوات التي تُضيء جوانب من التحولات القبلية قبل الإسلام، وتُقدّم وثيقة لغوية واجتماعية تستحق التأمل.

🧩 أثره في الذاكرة الثقافية

ظل اسم الفِند الزِّمّاني حاضرًا في كتب الأدب والتراجم بوصفه من المعمّرين الذين عاشوا نحو مئة سنة، وهو عمر نادر في الجاهلية، مما أضفى على شخصيته هالة من الحكمة والخبرة القتالية. وقد ساهم هذا العمر الطويل في جعله شاهدًا على تحولات قبلية كبرى، أبرزها حرب البسوس، التي شارك فيها رغم تقدّمه في السن، وأبلى فيها بلاءً يُعدّ بألف رجل.

شعره يُجسّد روح المواجهة الجاهلية، ويُقدّم وثيقة لغوية حية عن الصراع القبلي، حيث تتداخل الصور الحربية مع نبرة التحريض والاعتداد، مما يجعله من الأصوات التي لا تكتفي بالوصف، بل تُشارك في تشكيل الحدث. وقد وردت له أبيات في المفضليات وديوان الحماسة، مما يُؤكّد مكانته بين شعراء الحماسة والفخر.

ومن أبرز مظاهر حضوره الثقافي أنه ناقض شعراء مثل المهلهل بن ربيعة والأفوه الأودي، في سجالات شعرية تُبرز التوتر بين قبائل بكر وتغلب، وتُظهر كيف كان الشعر في الجاهلية أداةً للرد والدفاع والهجوم، لا مجرد تعبير فني. هذا التفاعل الشعري يُثبت أن الفِند لم يكن شاعرًا منعزلًا، بل كان فاعلًا في السجال الثقافي والقبلي، مما يجعل إرثه الشعري جديرًا بإعادة القراءة والتحليل.

🧩 خاتمة تحليلية

يُجسّد الفِند الزِّمّاني نموذجًا فريدًا في الأدب الجاهلي، حيث تتداخل القصيدة مع السيف، ويصبح الشاعر فارسًا لا يكتفي بالوصف، بل يُشارك في صنع الحدث. فشعره لا يُعبّر عن تأملات ذاتية، بل عن موقف قبلي حاد، يُخلّد لحظة تاريخية مشبعة بالصراع، والكرامة، والاعتداد بالنفس.

لقد استطاع أن يُحوّل تجربته الفردية إلى صوت جماعي لقبيلته بكر بن وائل، يُدافع عنهم، ويُبرز مكانتهم، ويُسجّل مواقفهم في مواجهة تغلب، في واحدة من أطول الحروب الجاهلية وأكثرها تأثيرًا. فقصائده تُجسّد روح الجاهلية الصلبة، وتُقدّم وثيقة لغوية واجتماعية تُضيء جوانب من التحولات القبلية التي سبقت الإسلام.

وإرثه الشعري، رغم محدودية ما وصلنا منه، يستحق إعادة قراءة نقدية تُعيد الاعتبار لتجربته، وتربط بين الفرد والقبيلة، وبين الشعر والمواجهة، وبين اللغة والموقف، مما يجعله من الأصوات التي لا ينبغي أن تُنسى في تاريخ الأدب العربي، خاصة في سياق دراسة الشعر بوصفه أداة مقاومة وتوثيق.