--> -->

ذؤيب بن كعب: شاعر المعارك الأول وحكم سوق عكاظ

author image

رجل عربي من بني تميم يقف في صحراء مفتوحة، يرتدي عمامة بيضاء وعباءة بنية، يحمل رمحًا خشبيًا، وتبدو على وجهه ملامح الحكمة والتحدي

🟠 التمهيد والسياق العام

في بدايات تشكّل الصوت الشعري العربي، وقبل أن تتبلور القصيدة الجاهلية في صورتها الكلاسيكية، يبرز اسم ذُؤَيب بن كعب بوصفه أحد أوائل من حملوا لواء الشعر في ساحات المعارك والمجالس القبلية. ورغم أن ما وصلنا من شعره لا يتجاوز قصيدة واحدة، إلا أن حضوره في الروايات التراثية، وتولّيه الحكم في سوق عكاظ، يكشف عن شخصية فاعلة في تشكيل الوعي الأدبي والاجتماعي في عصر ما قبل الإسلام. لقد كان ذُؤَيب شاهدًا على لحظة الانتقال من الشعر الشفوي المتناثر إلى القصيدة ذات البنية، ومن النداء الفردي إلى التعبير الجمعي، مما يمنحه مكانة تأسيسية في تاريخ الشعر العربي.

إن دراسة الشعراء الأوائل، أمثال ذُؤَيب، ليست مجرد استعادة لأسماء منسية، بل هي تفكيك للبنية الرمزية الأولى التي شكّلت وجدان العرب. فهؤلاء الشعراء لم يكتبوا في فراغ، بل في سياق قبلي مشحون بالصراعات، والتحالفات، والطقوس، وكان الشعر هو الوسيلة الأسمى للتعبير عن الذات والقبيلة معًا. ومن خلال قصائدهم، نرصد كيف تطوّرت الصورة الشعرية، وكيف تشكّلت الرموز الأولى التي ستصبح لاحقًا أعمدة في القصيدة الجاهلية: الأطلال، الناقة، السيف، والنداء. ذُؤَيب، بهذا المعنى، ليس مجرد شاعر مبكر، بل هو مؤسس ضمني لخطاب شعري سيستمر لقرون، ويُعاد إنتاجه في كل مرحلة من مراحل تطور الأدب العربي.

🟠 النسب والانتماء القبلي

ينتمي ذُؤَيب بن كعب إلى سلالة عدنانية عريقة، فهو ذُؤَيب بن كعب بن عمرو بن تميم، من بني عمرو بن تميم، إحدى البطون البارزة في قبيلة تميم، التي شكّلت أحد أعمدة البنية القبلية في وسط الجزيرة العربية. وتميم، بما لها من امتداد جغرافي واسع ونفوذ اجتماعي قوي، كانت من القبائل التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل ملامح الحياة الجاهلية، سواء في ميادين الحرب أو في ساحات الشعر والحكم.

قبيلة تميم كانت تنتشر في نجد واليمامة، وتمتد فروعها نحو البحرين والعرق الأوسط من الجزيرة، مما جعلها في قلب التفاعلات القبلية والتجارية والدينية. وقد عُرفت بحدة طباعها، واعتزازها بالنسب، ووفرة شعرائها، حتى قيل إنها "أم الشعراء". أما بنو عمرو بن تميم، فكانوا من الفروع التي اشتهرت بالقيادة والحكم، ويُعد ذُؤَيب أحد أبرز وجوههم، إذ تولّى الحكم في سوق عكاظ، وهو منصب لا يُمنح إلا لمن يجمع بين الفصاحة، والحكمة، والمكانة القبلية.

انتماء ذُؤَيب إلى بني عمرو لم يكن مجرد نسب، بل كان هوية ثقافية واجتماعية، انعكست في شعره وسيرته، وفي مشاركته في يوم تياس، حيث حمل لواء قومه، وخلّد تلك اللحظة في قصيدته الوحيدة المعروفة. وهذا الانتماء يمنحه موقعًا مركزيًا في الخارطة القبلية للجزيرة، ويجعل منه شاهدًا على مرحلة تأسيسية في تطور الشعر العربي، حيث كانت القبيلة هي الحاضنة الأولى للكلمة، والمرجعية الأولى للمعنى.

🟠 السيرة الشخصية والمكانة الاجتماعية

كان ذُؤَيب بن كعب شخصية فاعلة في المشهد القبلي الجاهلي، لا كشاعر فحسب، بل كقائد ومُحكّم، جمع بين السلطة الرمزية للكلمة والسلطة الفعلية في ساحة النزاع. في يوم تياس، وهو من أيام العرب الشهيرة، قاد ذُؤَيب بني عمرو بن تميم في مواجهة بني سعد بن زيد مناة، وحمل لواء قومه في المعركة، مما يدل على مكانته العسكرية والاجتماعية، ويُظهر كيف كان الشعراء في الجاهلية يُشاركون في صنع الحدث، لا مجرد تأريخه.

لكن مكانته لم تتوقف عند ساحة القتال، بل امتدت إلى سوق عكاظ، الذي كان يُعدّ منصة العرب الكبرى للحكم والشعر والتجارة. بعد سعد بن زيد مناة وحنظلة بن مالك، تولّى ذُؤَيب الحكم في السوق، وهو منصب لا يُمنح إلا لمن يجمع بين الفصاحة، والعدل، والهيبة القبلية. وقد كان الحُكّام في سوق عكاظ يُفصلون في النزاعات، ويُقيّمون الشعر، ويُرشدون القبائل، مما يجعل من ذُؤَيب شخصية مركزية في الحياة الثقافية والاجتماعية لعصره.

أما من الناحية الشعرية، فقد اعتبره الرواة من أوائل من أطال الشعر بعد المهلهل، في إشارة إلى تطوّر البنية الفنية للقصيدة العربية. فبينما كان الشعر في بداياته يتسم بالقصر والتكثيف، بدأ مع ذُؤَيب يأخذ شكلًا أكثر امتدادًا وتفصيلًا، مما يدل على نضج في التعبير، ووعي بالوظيفة الشعرية كوسيلة للتوثيق والتأثير. وقد وصفه العيني بأنه "أول من أطال الشعر"، وهي شهادة تُبرز دوره التأسيسي في تطوّر القصيدة العربية، وتمنحه موقعًا بين الرواد الأوائل الذين مهدوا الطريق لفحول الشعر الجاهلي.

وعليه فإن ذُؤَيب بن كعب لم يكن مجرد شاعر في الهامش، بل كان فاعلًا في قلب الحياة الجاهلية، يجمع بين القيادة، والحكم، والشعر، ويُجسّد النموذج العربي الذي يرى في الكلمة سلاحًا، وفي الشعر سلطة، وفي الحكمة ميراثًا.

🟠 قصيدته الوحيدة: تحليل لغوي وتاريخي

رغم أن ما وصلنا من شعر ذُؤَيب بن كعب لا يتجاوز قصيدة واحدة، إلا أن هذه القصيدة تمثل وثيقة شعرية نادرة من بدايات التشكّل الفني للشعر العربي، وتُعدّ شاهدًا على لحظة تاريخية مشحونة بالصراع القبلي، وهي يوم تياس، الذي التقت فيه قبائل من بني سعد بن زيد مناة وبني عمرو بن تميم. وقد نظم ذُؤَيب هذه القصيدة في خضم الحدث، مما يمنحها طابعًا حيًّا، ويجعلها أقرب إلى الشعر السياسي أو الحماسي المبكر.

📜 نص القصيدة (من بحر الكامل)

من أبرز أبياتها:

يا كعبُ إنَّ أخاكَ منحمقٌ، قد جربَ الأمرَ الذي ينهى قد كانَ يأملُ أنْ يقالَ لهُ، في قومهِ: من ذا الذي يَسعى؟

القصيدة تتألف من 11 بيتًا، وتُصنّف ضمن بحر الكامل، وهو بحرٌ يُستخدم غالبًا في الشعر الحماسي والوصفي، لما فيه من اتساع إيقاعي يسمح بالتفصيل والتكرار.

🧠 التحليل اللغوي

  • الألفاظ: يغلب عليها الطابع المباشر، مثل "منحمق"، "ينهى"، "يسعى"، وهي كلمات تحمل دلالات سلوكية واجتماعية، تُستخدم لتوصيف الموقف لا للتزيين.

  • التراكيب: تعتمد على الجمل الخبرية القصيرة، مما يمنح القصيدة طابعًا تقريريًا، ويُظهر أن الشاعر كان يُخاطب قومه بلغة العقل والتحذير.

  • الضمائر: استخدام الضمير "أخاك" و"له" و"في قومه" يُظهر أن الخطاب موجّه إلى الداخل القبلي، ويعكس التوتر بين الفرد والجماعة.

🏛️ الدلالات التاريخية

القصيدة تُعبّر عن الانقسام الداخلي في بني عمرو، وتحذير ذُؤَيب من تصرفات أحد أفراد القبيلة الذي "جرب الأمر الذي يُنهى"، أي خالف الأعراف أو تورّط في موقف يُحرج القبيلة. وهذا يُظهر كيف كان الشعر يُستخدم كأداة للتقويم الاجتماعي، لا مجرد تعبير ذاتي.

في سياق يوم تياس، تُعدّ القصيدة توثيقًا لموقف قبلي حساس، حيث كان ذُؤَيب حامل لواء بني عمرو، ويُخاطب قومه بلغة الحكمة والعتاب، مما يدل على أنه لم يكن شاعرًا منفعلًا، بل قائدًا واعيًا يستخدم الشعر لتوجيه الرأي العام داخل القبيلة.

🟠 ذُؤَيب في كتب التراث

رغم أن ذُؤَيب بن كعب يُعدّ من أوائل الشعراء الذين ساهموا في تشكيل البنية الأولى للقصيدة العربية، إلا أن حضوره في كتب التراث جاء محدودًا ومقتضبًا، مما يثير تساؤلات حول آليات التوثيق والتهميش في الرواية الأدبية القديمة. فقد ورد ذكره في مصادر مثل "الأصمعيات"، وهي مجموعة مختارة من أشعار العرب جمعها الأصمعي، و"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، حيث نُسبت إليه قصيدة واحدة فقط، تُعدّ من أقدم ما وصلنا من الشعر الجاهلي في بني تميم.

الرواة تعاملوا مع سيرته بصيغتين متناقضتين: فمن جهة، أثنوا على مكانته، واعتبروه من أوائل من أطال الشعر بعد المهلهل، بل إن بعضهم وصفه بأنه "حكيم بني عمرو" و"شاعر يوم تياس"، مما يدل على اعتراف ضمني بأهميته التاريخية. ومن جهة أخرى، لم يُفردوا له بابًا مستقلًا كما فعلوا مع شعراء أقل منه شأنًا، ولم تُجمع له دواوين أو روايات متعددة، مما يُظهر نوعًا من التهميش غير المبرر، ربما بسبب ضياع شعره أو ضعف الاهتمام بمن سبق الفحول الكبار.

أما أسباب قلة الشعر المنسوب إليه، فهي متعددة:

  • أولًا، أن شعره كان يُلقى في سياقات آنية، مثل المعارك والمجالس، ولم يُدوّن بشكل منهجي.

  • ثانيًا، أن الرواة في العصور اللاحقة ركّزوا على الشعراء الذين تركوا دواوين كاملة، مثل امرئ القيس وزهير، وأهملوا من لم يُنقل عنهم سوى قصائد متفرقة.

  • ثالثًا، أن ذُؤَيب عاش في مرحلة انتقالية بين الشعر الشفوي المتناثر والشعر المكتوب المنظّم، مما جعله ضحية الفجوة التوثيقية التي طالت كثيرًا من شعراء البدايات.

ومع ذلك، فإن مجرد ذكره في كتب مثل "الأصمعيات" و"الجمهرة" يُعدّ شهادة على أنه كان حاضرًا في الذاكرة الشعرية الأولى، وأن قصيدته الوحيدة كانت كافية لتمنحه موقعًا بين المؤسسين، لا المنسيين. وهذا ما يدعو إلى إعادة قراءة سيرته وشعره، لا بوصفه هامشًا، بل بوصفه جذرًا شعريًا في تربة الأدب العربي القديم.

🟠 مكانته في تطور الشعر العربي

يُعدّ ذُؤَيب بن كعب من الحلقات المفصلية في تطور الشعر العربي، إذ مثّل مرحلة انتقالية بين الشعر القصير الذي كان يُستخدم للتعبير اللحظي، وبين القصيدة المطوّلة التي بدأت تتبلور كبنية فنية مستقلة. وقد أشار إليه الرواة، وعلى رأسهم العيني، بأنه "أول من أطال الشعر بعد المهلهل"، وهي شهادة تُبرز دوره في توسيع أفق القصيدة، وتحويلها من مجرد بيتين أو ثلاثة إلى نصّ يحمل بناءً داخليًا متماسكًا، يُعالج فكرة أو موقفًا قبليًا بكامل أبعاده.

هذا التحول لم يكن تقنيًا فحسب، بل كان وظيفيًا؛ فالشعر عند ذُؤَيب لم يعد مجرد ردّ فعل، بل أصبح وسيلة للتوجيه، والتقويم، والتوثيق، كما يظهر في قصيدته الوحيدة التي تناولت يوم تياس. وقد أثّر هذا المنهج على الشعراء اللاحقين، الذين بدأوا يُدركون أن القصيدة يمكن أن تكون سجلًا اجتماعيًا، أو وثيقة سياسية، أو خطابًا أخلاقيًا، لا مجرد زخرفة لغوية.

عند مقارنته بـالمهلهل بن ربيعة، نلاحظ أن المهلهل كان يُركّز على النداء الحماسي والانتقام الشخصي، في حين أن ذُؤَيب يُقدّم خطابًا أكثر اتزانًا، يُخاطب الجماعة، ويُحذّر من الانحراف عن الأعراف. أما ضمرة الكناني، فكان يميل إلى التكثيف والتصوير الرمزي، بينما ذُؤَيب يُفضّل المباشرة والوضوح، مما يجعل شعره أقرب إلى الوظيفة الاجتماعية منه إلى التخييل الفني.

وهكذا، فإن ذُؤَيب بن كعب يُجسّد لحظة نضج في الشعر العربي، حيث بدأت القصيدة تُبنى لا تُرتجل، وتُوجّه لا تُغنّى فقط، مما يمنحه موقعًا تأسيسيًا في تطور البنية الشعرية، ويجعل منه رائدًا في تحويل الشعر من صوت فردي إلى خطاب جماعي.

🟠 إعادة الاعتبار لشخصيته

في زمنٍ تتسارع فيه إعادة قراءة التراث العربي، تبرز الحاجة إلى استعادة أسماءٍ تأسيسية طُمست تحت وطأة الفحول الكبار، ومن بينهم ذُؤَيب بن كعب، الذي يستحق أن يُعاد الاعتبار له بوصفه رائدًا مبكرًا في بناء القصيدة العربية، لا مجرد شاعر عابر في سجل الأيام. فمكانته في قيادة بني عمرو، وتولّيه الحكم في سوق عكاظ، ونظمه لقصيدة في لحظة تاريخية مشحونة، كلها مؤشرات على أنه كان فاعلًا ثقافيًا واجتماعيًا، لا مجرد ناقل للكلمة.

قصيدته الوحيدة، رغم قصرها، تكشف عن بدايات الوعي الشعري العربي، حيث يُستخدم الشعر لتقويم السلوك، وتوجيه الجماعة، وتوثيق الحدث. فهي لا تعتمد على التخييل أو الزخرفة، بل على الخطاب المباشر، الذي يُخاطب العقل الجمعي، ويُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والقبيلة. وهذا ما يجعلها نصًا تأسيسيًا، يُظهر كيف بدأ الشعر العربي يتجاوز الغناء إلى الوظيفة الاجتماعية والسياسية، مما يمنح ذُؤَيب موقعًا بين المؤسسين الأوائل للهوية الأدبية العربية.

إن دعوة إعادة قراءة الشعر المبكر، ومنه شعر ذُؤَيب، ليست مجرد استعادة للماضي، بل هي تفكيك للبنية الرمزية الأولى التي شكّلت وجدان العرب. ففي هذا الشعر، نرى كيف كانت الكلمة تُستخدم للحكم، والقصيدة تُلقى في ساحة المعركة، والشاعر يُعدّ قائدًا لا مغنيًا. وهذا ما يجعل من الشعر المبكر نواة للهوية الأدبية، التي ستتطوّر لاحقًا في المعلقات، لكنها بدأت من هنا: من صوت ذُؤَيب، ومن قصيدته التي خاطبت قومه في لحظة مصيرية، ومن حكمته التي سبقت التدوين، وظلت حيّة في الذاكرة الشفهية.