جبيهاء الأشجعي: شاعر البادية المنسي وصوت الوصف في تخوم الجاهلية
🟫 المقدمة
في رمال البادية التي لا تحفظ إلا آثار من عبروها، يبرز اسم جبيهاء الأشجعي كصوت شعري خافت لكنه عميق، ينتمي إلى طبقة الشعراء الذين لم تُنصفهم المدونات الكبرى، ولم تُخلّدهم المعلقات، لكنهم تركوا بصماتٍ فنية تستحق أن تُستعاد. جبيهاء، المنسوب إلى قبيلة أشجع من غطفان، لم يكن شاعر بلاط ولا فارس قبيلة، بل كان شاعرًا وصّافًا، يُجيد التقاط التفاصيل الصغيرة، ويُعيد تشكيلها بلغةٍ بدويةٍ مشحونة بالرمز والحنين.
تكتسب دراسة شعر جبيهاء الأشجعي أهمية خاصة في سياق الأدب الجاهلي الهامشي، ذلك الأدب الذي لم يُكتب له الظهور في كتب الطبقات أو دواوين الفحول، لكنه ظل حيًّا في الذاكرة الشفوية، وفي النصوص المتناثرة التي نقلها الرواة. إن تناول شعره لا يُعد مجرد استعادة لاسم منسي، بل هو فعل نقدي مقاوم، يُعيد الاعتبار للأصوات التي لم تُمنح حقها في زمنها، ويُعيد تشكيل خارطة الأدب العربي بحيث لا يكون المركز هو القبيلة أو السلطة، بل الذات الشعرية التي تُعبّر عن نفسها خارج الأطر الرسمية.
وتطرح هذه الدراسة إشكالية مركزية: لماذا يُهمّش الشعراء الذين لا ينتمون إلى السلطة أو لا يُجيدون المدح؟ وهل القيمة الفنية تُقاس بالشهرة أم بالقدرة على التعبير؟ إن شعر جبيهاء، بما فيه من وصفٍ دقيق، وغزلٍ رقيق، ونبرةٍ تأملية، يُقدّم نموذجًا نادرًا لشاعرٍ استطاع أن يُعبّر عن ذاته دون أن يتورط في صراعات السلطة أو أنماط الفخر الجاهلي. ومن هنا، فإن إعادة قراءته ليست مجرد استعادة تاريخية، بل هي دعوة لإعادة تعريف الشعر العربي بوصفه فنًا إنسانيًا، لا مجرد أداة اجتماعية.
🟫 النسب والهوية القبلية
ينتمي جبيهاء الأشجعي إلى قبيلة أشجع، وهي فرع من قبائل غطفان، إحدى القبائل القيسية التي استوطنت شمال نجد، وتحديدًا في المناطق الواقعة بين وادي القرى وخيبر، حيث كانت القبيلة تتقاطع مع طرق التجارة والغزو، وتجاور قبائل مثل عبس وذبيان. لم تكن أشجع من القبائل ذات النفوذ السياسي الكبير، لكنها امتلكت حضورًا عسكريًا وشعريًا في الحروب القيسية، وشاركت في التحالفات القبلية التي شكّلت ملامح الصراع الجاهلي.
في الخارطة القبلية للجزيرة العربية، كانت غطفان تمثل كتلة قبلية متماسكة، لكنها غير مركزية، أي أنها لم تكن من القبائل التي ارتبطت بالبلاط أو السلطة، بل كانت أقرب إلى الهامش الجغرافي والسياسي، وهذا ما انعكس على شعر أبنائها، الذين مالوا إلى الوصف والتأمل والغزل أكثر من الفخر والمدح. ومن هنا، فإن انتماء جبيهاء إلى قبيلة أشجع من غطفان يُفسّر كثيرًا من ملامح شعره: نبرة هادئة، لغة غير متكلفة، واهتمام بالتفاصيل اليومية أكثر من البطولات الكبرى.
لقد شكّل الانتماء القبلي لجبيهاء إطارًا نفسيًا واجتماعيًا لنبرته الشعرية؛ فهو لا يتحدث من موقع القوة، بل من موقع الذات الفردية التي تُراقب العالم من الأطراف، وتُعيد صياغته بلغةٍ شاعريةٍ خافتة. هذه النبرة، التي قد تبدو هامشية في سياق الشعر الجاهلي الصاخب، هي في الحقيقة علامة على فرادة الصوت الشعري، وعلى قدرة الشاعر على تحويل الهامش إلى مركز جمالي، لا يُقاس بعدد القصائد، بل بعمق الرؤية.
🟫 السيرة والسياق التاريخي
تُعدّ سيرة جبيهاء الأشجعي من السير التي لا تُروى عبر كتب الأنساب أو الطبقات، بل تُستشف من القصائد المتناثرة التي نُسبت إليه، ومن إشارات الرواة الذين نقلوا شعره في سياق الحديث عن قبائل غطفان وأشجع. لا نملك عن حياته تفاصيل دقيقة، لكن شعره يُقدّم صورةً شاعريةً عن رجلٍ بدويٍّ عاش في قلب الصحراء، وعايش تقلباتها، من غزوٍ وترحالٍ وصراعٍ قبلي، دون أن يتورط في مدح الملوك أو التكسّب من بلاط السلطة. إنه من أولئك الشعراء الذين تشكّلت سيرتهم من داخل النص، لا من خارجه.
تُظهر قصائده علاقةً وثيقةً بالبادية، ليس بوصفها مكانًا جغرافيًا فحسب، بل كـفضاء وجودي يُحدّد إيقاع الحياة، ويُشكّل الوعي الشعري. في شعره إشارات إلى الغزو، لا بوصفه بطولة، بل كفعلٍ يوميٍّ يُعيد تشكيل العلاقات بين القبائل، ويُبرز هشاشة الانتماء. كما أن وصفه للناقة، وللرحيل، وللأثر في الرمل، يُحيل إلى تجربةٍ بدويةٍ أصيلة، تُعبّر عن شاعرٍ عاش في الأطراف، لا في المدن، ولا في ظلّ السلطان.
ويُصنّف جبيهاء ضمن شعراء الأطراف الذين لم ينخرطوا في بلاط أو سلطة، ولم يُكتب لهم الظهور في دواوين الفحول، لكنهم تركوا أثرًا فنيًا يُقاوم النسيان. هؤلاء الشعراء، الذين لم تُخلّدهم كتب الأدب الرسمي، يُشكّلون طبقةً مهمّشة لكنها غنية، تُعبّر عن الذات الفردية في مواجهة الجماعة، وعن اللغة اليومية في مواجهة البلاغة الرسمية. إن شعر جبيهاء، بما فيه من صدقٍ وتلقائية، يُعيد الاعتبار لهذه الطبقة، ويُبرز أن الشعر لا يُقاس بالشهرة، بل بالقدرة على التعبير عن الإنسان في لحظاته الهامشية.
🟫 السمات الفنية في شعره
يتسم شعر جبيهاء الأشجعي ببنية إيقاعية تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"المدرسة الصحراوية" في الوزن والقافية، حيث يلتزم ببحورٍ تقليدية مثل الطويل والبسيط، وهما من البحور التي تسمح بامتداد النفس الشعري، وتُناسب الوصف والتأمل أكثر من الحماسة والانفعال. هذا الالتزام لا يُعد تقليدًا، بل هو اختيار جمالي يُعبّر عن شاعرٍ يُفضّل الإيقاع المتزن على التفعيلة المتكسّرة، ويُراهن على التكرار الصوتي لإبراز المعنى، لا لإبهار السامع.
أما من حيث الصور البلاغية، فإن شعره يُقدّم وصفًا حسيًا دقيقًا، يُركّز على التفاصيل الصغيرة: أثر القدم في الرمل، لمعان السراب، ارتجاف الناقة عند الرحيل. ويستخدم التشبيه الحيواني بوصفه أداةً للتقريب بين الإنسان والطبيعة، فيُشبّه الحبيبة بالظبية، والفرس بالصقر، والليل بالذئب، في استعاراتٍ تُعيد تشكيل العالم الصحراوي بلغةٍ شاعريةٍ نابضة. كما يُكثر من استعارة المكان، حيث تتحوّل البادية إلى كائن حيّ، يتنفس، ويغضب، ويحنّ، مما يُضفي على النص بعدًا وجوديًا يتجاوز الوصف إلى التأمل.
ويتميّز أسلوب جبيهاء بنبرةٍ سردية وصفية، لا تعتمد على التراكيب المعقدة، بل تُفضّل البساطة والوضوح، مع ميلٍ إلى الدمج بين الفخر والتأمل. فهو لا يفخر بنفسه بوصفه بطلاً، بل بوصفه شاهدًا على الحياة، يُراقبها ويُعيد صياغتها بلغةٍ شاعريةٍ هادئة. هذا الأسلوب يُعبّر عن شاعرٍ لا يسعى إلى إثبات ذاته عبر الصراخ، بل عبر الهمس الفني، الذي يُخاطب الذائقة لا الغريزة، ويُقدّم الشعر بوصفه تجربةً داخليةً لا استعراضًا خارجيًا.
إن هذه السمات الفنية تُبرز فرادة جبيهاء في سياق الشعر الجاهلي، وتُعيد الاعتبار للصوت الهامشي الذي يُجيد التعبير عن ذاته دون أن يتورط في أنماط الفخر أو المدح، مما يجعله نموذجًا نادرًا لشاعرٍ يُقاوم النسيان عبر الجمال، لا عبر السلطة.
🟫 أغراضه الشعرية
يتوزّع شعر جبيهاء الأشجعي على ثلاثة محاور رئيسية تُشكّل ملامح تجربته الفنية: الوصف، الفخر، والغزل، وهي أغراض تقليدية في الشعر الجاهلي، لكنه يُعيد صياغتها بنبرةٍ فرديةٍ هادئة، تُعبّر عن شاعرٍ يُراقب العالم من الأطراف، لا من مركز السلطة أو الصراع.
🟠 الوصف:
يُعدّ الوصف أحد أبرز ملامح شعر جبيهاء، حيث يُقدّم تصويرًا حسيًا دقيقًا للبيئة الصحراوية، من الرمال والسراب والنجوم، إلى تفاصيل الناقة والرحيل. لا يكتفي بوصف المشهد، بل يُعيد تشكيله بلغةٍ شاعريةٍ تُحاكي الرسم بالكلمات. في وصفه للنساء، لا يغرق في الغزل الجسدي، بل يُركّز على الرشاقة، الحركة، والظلّ، مما يُضفي على النص بعدًا بصريًا رقيقًا. كما أن وصفه للبعير يُحاكي شعراء الوصف الكبار، لكنه يُضيف إليه نبرةً تأملية، تُظهر العلاقة الوجودية بين الإنسان والمركوب، بين الرحيل والحنين.
🟠 الفخر:
لا يتورّط جبيهاء في الفخر الصاخب الذي يُميّز شعراء القبائل الكبرى، بل يُقدّم اعتدادًا هادئًا بالقبيلة والذات، يُركّز على الكرامة، الصبر، والقدرة على التحمّل. فخره ليس استعراضًا، بل تأكيد على الهوية، وعلى الانتماء إلى قبيلةٍ تعيش في الأطراف، لكنها تمتلك من القيم ما يُغنيها عن التكسّب. هذا النوع من الفخر يُعيد تعريف البطولة، بوصفها قدرة على البقاء، لا على الغزو، وعلى التعبير، لا على السيطرة.
🟠 الغزل:
في غزله، يُقدّم جبيهاء نبرةً بدوية رقيقة، تُشبه نبرة شعراء مثل هدبة بن خشرم، الذين يُعبّرون عن الحب بوصفه حنينًا، لا رغبة، وعن المرأة بوصفها ظلًّا، لا جسدًا. يُكثر من التشبيهات الحيوانية، مثل الظبية والحمامة، ويُركّز على الحركة، النظرة، والغياب، مما يُضفي على الغزل طابعًا تأمليًا يُحاكي الطبيعة أكثر من الغريزة. هذا الغزل يُعبّر عن شاعرٍ يُحب من بعيد، ويُراقب من خلف الرمل، ويكتب من قلب الوحدة، لا من صخب اللقاء.
إن أغراض شعر جبيهاء تُشكّل ثلاثية فنية متكاملة، تُبرز فرادة صوته، وتُعيد الاعتبار للشعر الهامشي بوصفه مساحةً للتأمل، لا للاستعراض، وللجمال، لا للسلطة.
🟫 التلقي والتأثير
لم يحظَ جبيهاء الأشجعي بحضورٍ كثيف في كتب الأدب الكبرى، لكنه يُذكر في بعض المصادر مثل معجم الشعراء وديوان الهجاء، لا بوصفه شاعرًا فحلًا، بل كصوتٍ وصّافٍ يُجيد التقاط التفاصيل، ويُعبّر عن البادية بلغةٍ شاعريةٍ دقيقة. هذا الحضور المتناثر يُشير إلى أن الرواة لم يُهملوه تمامًا، بل تعاملوا معه بوصفه شاعرًا متخصصًا في الوصف والغزل، لا في الفخر أو الهجاء، مما جعله خارج التصنيفات التقليدية التي تُركّز على البطولة والبلاغة.
وقد تعامل الرواة مع شعره بنوعٍ من الاحترام الفني الصامت؛ لم يُكثروا من روايته، لكنهم حين نقلوا أبياته، أشاروا إلى دقّته في التصوير، وإلى نبرته الهادئة التي تُخالف صخب الشعر الجاهلي. بعضهم صنّفه ضمن شعراء "الوصّافين"، وهم أولئك الذين يُجيدون رسم المشهد أكثر من إثارة الحماسة، مما يُبرز مكانته كصوتٍ فرديٍّ يُعبّر عن ذاته، لا عن قبيلته.
أما في السياقات اللاحقة، فقد أُهمل شعره إلى حدٍّ كبير، ولم يُعاد إنتاجه في العصر العباسي أو في كتب النقد الكلاسيكية، ربما لأنه لا يُناسب الذوق البلاغي الذي كان يُفضّل التراكيب المعقدة والمبالغة. لكن في العصر الحديث، ومع صعود الدراسات التي تُعيد الاعتبار للأدب الهامشي، بدأ شعر جبيهاء يُقرأ من زاوية جديدة: بوصفه نموذجًا للذات الشعرية المستقلة، التي تُعبّر عن نفسها خارج السلطة، وخارج المركز، مما يجعله مادةً خصبة لإعادة التفكير في مفهوم الشعر الجاهلي، وفي معايير الفحولة الأدبية.
إن التلقي المحدود لشعر جبيهاء لا يُقلّل من قيمته، بل يُبرز الحاجة إلى إعادة قراءته نقديًا، بوصفه صوتًا مقاومًا للهامش، وصورةً فنيةً نادرة لشاعرٍ عاش في الأطراف، وكتب من قلب الصحراء، لا من ظلّ القصور.
🟫 الدلالة الثقافية
يُمكن النظر إلى جبيهاء الأشجعي بوصفه رمزًا للشاعر البدوي غير المؤدلج، الذي لم يُكتب له أن يكون ناطقًا باسم سلطة أو قبيلة، ولم يُستدرج إلى مدح الملوك أو هجاء الخصوم، بل ظلّ صوتًا فرديًا يُعبّر عن ذاته من داخل البادية، لا من خارجها. هذه الاستقلالية تُضفي عليه قيمة ثقافية خاصة، إذ يُمثّل نموذجًا نادرًا للشاعر الذي يكتب من أجل التعبير، لا من أجل التأثير، ومن أجل التأمل، لا من أجل التكسّب. إنه شاعرٌ يُعيد الاعتبار للذات الشعرية بوصفها كيانًا مستقلًا، لا أداةً في يد الجماعة.
وترتبط قصائده ارتباطًا وثيقًا بـتحولات البادية في العصر الجاهلي، من حيث التغيرات في نمط الحياة، وتبدّل العلاقات القبلية، وتزايد التوتر بين الاستقرار والترحال. في شعره إشارات إلى الغزو، والرحيل، والحنين، مما يُحاكي التحولات الاجتماعية التي كانت تُعيد تشكيل البنية القبلية، وتُفرز طبقات جديدة من الشعراء الذين لا ينتمون إلى المركز، بل إلى الأطراف. ومن هنا، فإن شعر جبيهاء يُعدّ وثيقةً ثقافيةً تُسجّل هذه التحولات، وتُعبّر عنها بلغةٍ شاعريةٍ دقيقة، تُحاكي الواقع دون أن تُخضعه للبلاغة الرسمية.
ويُعيد جبيهاء تعريف الشعر الجاهلي من جذوره، إذ يُقدّمه بوصفه وصفًا وتأملًا، لا مجرد مدح أو هجاء. في قصائده، لا نجد صراخ الفخر، ولا سُمّ الهجاء، بل نبرةً هادئة تُراقب العالم، وتُعيد تشكيله بلغةٍ شاعريةٍ تُشبه الهمس. هذا التحوّل يُبرز أن الشعر ليس بالضرورة أداةً للصراع، بل يمكن أن يكون مساحةً للتأمل، ولإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الذات والقبيلة. ومن هنا، فإن جبيهاء يُمثّل تيارًا ثقافيًا مضادًا، يُعيد الاعتبار للشعر بوصفه فنًا إنسانيًا، لا خطابًا سياسيًا أو اجتماعيًا.
إن الدلالة الثقافية لشعر جبيهاء تتجاوز النصوص إلى إعادة التفكير في مفهوم الشعر نفسه، وفي معايير الفحولة الأدبية، وفي قيمة الهامش بوصفه مركزًا بديلًا، يُعبّر عن الجمال بلغةٍ خافتة، لكنها عميقة.
🟫 خاتمة تحليلية
إن جبيهاء الأشجعي يستحق أن يُعاد اكتشافه لا لأنه شاعر منسيّ فحسب، بل لأنه يُجسّد نموذجًا فنيًا نادرًا في الشعر الجاهلي: شاعرٌ بدويٌّ مستقل، لم تُفسده السلطة، ولم تُشكّله الأيديولوجيا، بل ظلّ وفيًّا لتجربته الفردية، يُعبّر عن ذاته بلغةٍ وصفيّةٍ دقيقة، ونبرةٍ تأمليةٍ هادئة. في زمنٍ تُعاد فيه قراءة التاريخ الأدبي من منظور الهامش، يُصبح جبيهاء صوتًا مقاومًا للنسيان، ومرآةً للبادية التي لا تتكلّم إلا عبر الشعراء الذين عاشوا تفاصيلها، لا أولئك الذين تكسّبوا من صورتها.
ومن هنا، فإن مشروع دار العلوم، بوصفه منصة معرفية تُعنى بإبراز الأصوات الفردية والهامشية، مدعوٌّ إلى إعادة الاعتبار لهؤلاء الشعراء الذين لم تُنصفهم المدونات الكبرى، لكنهم تركوا أثرًا فنيًا يُقاوم المحو. إن إدراج جبيهاء ضمن خارطة الشعراء الذين يُعاد اكتشافهم لا يُعدّ مجرد استعادة تاريخية، بل هو فعل نقدي ثقافي يُعيد تشكيل الذائقة، ويُوسّع مفهوم الفحولة الشعرية ليشمل التأمل والوصف، لا الصراخ والهجاء.
ويُعدّ جبيهاء مثالًا حيًّا على الأدب الوصفي البدوي، الذي يُجسّد هوية البادية من الداخل، لا من الخارج، ويُعيد تشكيل علاقتها بالإنسان، والمكان، والزمن. في شعره، تتحوّل الصحراء إلى كائن حيّ، والناقة إلى رفيقة، والمرأة إلى ظلّ، مما يُبرز قدرة الشعر على أن يكون فنًّا وجوديًّا، لا مجرد وسيلة للتفاخر أو الهجاء. ومن هنا، فإن إعادة قراءة جبيهاء ليست استعادة لاسم، بل استعادة لرؤية شعرية كاملة، تُعيد تعريف الشعر بوصفه فنًّا إنسانيًا، يُعبّر عن الذات في لحظاتها الهامشية، ويُحوّل الصمت إلى لغة، والظلّ إلى معنى.