مبدع بن هرم: شاعر ثمودي منسي في بدايات الشعر العربي القديم
🔍 المقدمة: مبدع بن هرم... صوتٌ شعري أم نذيرٌ في قومٍ منسي؟
في زوايا التاريخ العربي البعيد، قبل أن تتبلور الجاهلية وتُدوّن المعلقات، يطلّ علينا اسم مبدع بن هرم بوصفه شاعرًا من قوم ثمود، إحدى القبائل البائدة التي ارتبطت بالأسطورة أكثر من التاريخ. ورد ذكره في جمهرة أشعار العرب، لا كاسم عابر، بل كصوت شعري مبكر يُنذر بالخطر، ويُجسّد لحظة من التعبير الفني في مجتمعٍ كان على شفا العذاب.
لم يكن مبدع شاعرًا تقليديًا، بل أقرب إلى نذيرٍ ثقافي، عبّر عن الخوف، والنبوة، والمفارقة، في أبياتٍ قصيرة لكنها مشحونة بالدلالة. فهل كان مبدع بن هرم مجرد شاعرٍ يصف الناقة وفصيلها؟ أم أنه كان صوتًا رمزيًا يُحذّر قومه من المصير، ويُجسّد بداية الوعي الشعري في العرب قبل الجاهلية؟ هذا المقال يحاول أن يُنقّب في تلك الشخصية المنسية، ويعيد رسم ملامحها بين الأسطورة والتاريخ، بين الشعر والنبوة، وبين الصوت والغياب.
🧬 النسب والانتماء الحضاري: شاعر من سلالة العذاب والنبوءة
ينتمي مبدع بن هرم إلى قبيلة ثمود، إحدى القبائل العربية البائدة التي ارتبطت في الذاكرة الدينية والأسطورية بالعصيان والنهاية المفاجئة. ويُقال إنه من نسل عوص بن إرم بن سام بن نوح، مما يضعه في سلسلة نسب تتجاوز العرب إلى الجذور الإنسانية الأولى، وتمنحه بعدًا كونيًا في الحضور والغياب.
وجوده ضمن العرب البائدة لا يعني فقط أنه من زمنٍ منقرض، بل يُشير إلى أنه من عالمٍ شعري سابق على التدوين، حيث كانت الكلمة تُقال بوصفها نبوءة، لا زخرفًا. فأن يكون شاعرًا من ثمود، يعني أنه عاش في مجتمعٍ يُجيد البناء، لكنه يعجز عن السمع، مجتمعٍ عُرف بالتمرد على النذير، وانتهى بصيحةٍ أزلية.
إن انتماء مبدع إلى قومٍ عُرفوا بالعصيان، يمنحه رمزية خاصة: فهو صوتٌ فردي في جماعةٍ صماء، شاعرٌ يرى النهاية قبل أن تقع، ويُجسّد المفارقة بين الفن والقدر، بين القول والصيحة، وبين الشعر والخراب. وهنا، لا يُقرأ نسبه بوصفه معلومة، بل بوصفه مفتاحًا لفهم شعره، وموقعه في سردية العرب الذين قالوا الشعر قبل أن يُكتب التاريخ.
📜 شعره في الناقة وفصيلها: حين يتحوّل الهروب إلى نبوءة شعرية
من بين ما نُسب إلى مبدع بن هرم، تبرز أبيات قصيرة قالها في مشهد درامي مؤلم، حين احتمى فصيل الناقة بصخرة في جبل رضوى، هاربًا من العقر، في لحظة يتداخل فيها الخوف بالغريزة، والحماية بالموت. يقول:
ولاذَ بصخرةٍ من رأسِ رضوى بأعلى الشعبِ من شعفٍ منيفِ فلاذَ بها لكي لا يعقروه وفي تلواذِهِ مرّ الحتوفِ
هذه الأبيات، رغم بساطتها الظاهرية، تحمل بنية تصويرية غنية: الناقة ليست مجرد حيوان، بل كائنٌ يلوذ بالصخر، وكأنها تستنجد بالطبيعة من الإنسان، في مفارقة وجودية تُجسّد هشاشة الحياة أمام العنف. السياق الدرامي للقصيدة يُحاكي لحظة الهروب، ثم الحماية، ثم الموت، في تصاعد سردي يُشبه النبوءة، ويُعيدنا إلى سردية قوم ثمود الذين عقروا الناقة، فاستحقوا الصيحة.
ورغم قِدم النص، فإن البنية الرمزية فيه تُظهر وعيًا شعريًا مبكرًا: الصخرة ليست مجرد ملجأ، بل رمزٌ للثبات، والفصيل يُجسّد البراءة، والحتوف هو المصير المحتوم. هكذا يتحوّل الشعر إلى مرآة للقدر، ويُصبح مبدع بن هرم شاهدًا شعريًا على لحظة الانهيار، لا بوصفه راوٍ فقط، بل بوصفه نذيرًا يرى في الهروب بداية النهاية.
⚡ لحظة الصيحة: حين ينكسر الصوت وتبدأ الأسطورة
في نهاية درامية تتقاطع فيها الأسطورة مع الوعي، يُروى أن مبدع بن هرم قُتل بصيحة العذاب التي أهلكت قوم ثمود، بعد أن عقروا الناقة وتجاهلوا النذير. لكن ما يلفت النظر في الرواية ليس فقط مقتله، بل تعليقه القصير والمكثف: "نعوذ بالله من ذلك" كلمة واحدة، لكنها تُجسّد لحظة إدراك وجودي، حيث يتحوّل الشاعر من راوٍ إلى شاهد، ومن مُنذر إلى ضحية، ومن صوتٍ شعري إلى صدى أسطوري.
هذه الصيحة، في بعدها الرمزي، تُشكّل نهاية الشعر وبداية الأسطورة. فحين تصرخ الطبيعة، يصمت الإنسان، ويتحوّل الكلام إلى أثر. لقد كان مبدع بن هرم يُجسّد الوعي الشعري في قومٍ لا يسمعون، وحين جاءت الصيحة، لم تُنهِ حياته فقط، بل أنهت زمن القول، وبدأ زمن الذكرى.
إن لحظة الصيحة ليست مجرد عقوبة، بل تحوّل رمزي من الفن إلى المصير، من التعبير إلى الانطفاء، ومن الذات إلى الجماعة. ومبدع، في تلك اللحظة، لم يكن شاعرًا فقط، بل كان مرآةً للوعي العربي الأول، الذي أدرك أن الكلمة لا تُنقذ من القدر، لكنها تُخلّد في الذاكرة.
🪞 التأطير الرمزي والفلسفي: مبدع بن هرم... الشاعر الذي أنذر قبل أن يُعاقب
في شخصية مبدع بن هرم، لا نقرأ مجرد شاعر من قوم ثمود، بل نواجه نموذجًا أوليًا لـ"الشاعر النذيري" في الثقافة العربية القديمة، ذاك الذي لا يُغني في الولائم، بل يُنذر في العتمة. لقد عاش في مجتمعٍ عُرف بالتمرد على النبوءة، فكان صوته الشعري بمثابة ارتجاج داخلي في جماعةٍ صماء، يُحذّر من المصير، ويُجسّد وعيًا سابقًا للعقوبة.
في السياق العربي القديم، كانت العلاقة بين الشعر والنبوة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه؛ فالشاعر لم يكن مجرد فنان، بل حاملًا لرسائل ضمنية، يُعبّر عن الخوف، والحدس، والخراب القادم. ومبدع، في لحظة الصيحة، لم يكن ضحية فقط، بل شاهدًا شعريًا على انهيار الجماعة، ومرآةً رمزية لزمنٍ يُنذر ولا يُصغى إليه.
إنه يُجسّد نموذجًا فريدًا للشاعر الذي يرى النهاية قبل وقوعها، لا بوصفه متنبئًا، بل بوصفه كائنًا شعريًا حساسًا للزمن، يلتقط ارتجاجات المصير في تفاصيل الناقة، والصخرة، والفصيل. وهنا، يتحوّل مبدع من اسمٍ في الهامش إلى رمز فلسفي يُعيد تعريف وظيفة الشعر في التاريخ العربي: ليس ترفًا لفظيًا، بل وعيًا وجوديًا، يُحاول أن يُنقذ الجماعة بالكلمة، قبل أن تبتلعها الصيحة.
🧠 الإرث الثقافي والغياب: شاعرٌ في الهامش... وصوتٌ يستحق الاستعادة
رغم أن اسم مبدع بن هرم ورد في مصادر أدبية قديمة مثل جمهرة أشعار العرب، إلا أن حضوره في السرديات الشعبية والثقافية ظل شبه معدوم، وكأنه طُمس تحت ركام الأسطورة، أو تُرك في هامش التاريخ لصالح أسماء أكثر شهرة. هذا الغياب لا يعود إلى ضعف في الأثر، بل إلى ثلاثة أسباب جوهرية: أولها قِدمه الزمني، إذ ينتمي إلى مرحلة ما قبل الجاهلية، حيث لم تكن أدوات التوثيق قد نضجت بعد. وثانيها انتماؤه إلى قوم ثمود، الذين ارتبطوا في الوعي الديني بالعصيان والعقوبة، مما جعل كل ما يُنسب إليهم يُقرأ بحذر أو يُهمل. وثالثها قلة النصوص المنقولة عنه، إذ لم يُخلّف ديوانًا، بل أبياتًا متفرقة، تُشبه النداء أكثر من القصيدة.
لكن هذا التهميش لا يُلغي قيمته، بل يُحفّز على إعادة إدراجه ضمن مشروع استعادة الشعراء المؤسسين، أولئك الذين قالوا الشعر قبل أن يُدوّن، والذين جسّدوا الوعي العربي الأول في لحظات الخوف، والنبوة، والانهيار. إن استعادة مبدع بن هرم ليست مجرد إنصاف تاريخي، بل إعادة بناء لذاكرة شعرية عربية منسية، تُعيد الاعتبار للصوت الذي سبق الصيحة، وللكلمة التي حاولت أن تُنقذ الجماعة من مصيرها.
📚 الخاتمة: استعادة الصوت الشعري قبل الجاهلية
في هذا المقال، تتبعنا ملامح شخصية مبدع بن هرم، الشاعر الثمودي المنسي، من نسبه العريق إلى قومٍ بائدة، إلى لحظة نبوءته الشعرية في مشهد الناقة وفصيلها، ثم مقتله بصيحة العذاب، وانطفاء صوته في لحظة إدراك وجودي نادرة. حللنا شعره بوصفه تعبيرًا رمزيًا عن الخوف والمصير، وتأملنا موقعه في العلاقة المعقدة بين الشعر والنبوة، حيث يتحوّل الشاعر إلى نذير، والصوت إلى مرآة للخراب القادم.
لقد كشف المقال أن مبدع بن هرم ليس مجرد اسم في الهامش، بل شاهد شعري على بدايات الوعي العربي، قبل الجاهلية، وقبل التدوين، وقبل أن تُصبح الكلمة أداة تزيين لا وسيلة إنذار. غيابه عن السرديات الشعبية لا يُقلّل من قيمته، بل يُحفّز على إدراجه في المحتوى الثقافي المعاصر، سواء عبر المقالات الموسوعية، أو الأعمال الفنية، أو المناهج التعليمية التي تبحث عن جذور التعبير العربي.
إن استعادة مبدع بن هرم ليست فقط إنصافًا لشاعرٍ منسي، بل إعادة بناء لذاكرة شعرية عربية أعمق من الجاهلية، تُعيد الاعتبار للصوت الذي سبق الصيحة، وللكلمة التي حاولت أن تُنقذ الجماعة من مصيرها، لكنها بقيت وحدها في الصدى.