--> -->

المثقّب العبدي: شاعر عبد القيس وصوت الحكمة في العصر الجاهلي

author image

رسم واقعي لشاعر عربي من العصر الجاهلي يرتدي عمامة بيضاء ورداء تقليدي، بملامح جادة ونظرة عميقة، يُجسّد شخصية المثقّب العبدي من قبيلة عبد القيس.

🔍 المقدمة: المثقّب العبدي... شاعر البحرين وصوت الحكمة الجاهلية

في قلب البحرين الجاهلية، حيث كانت التجارة والثقافة تتقاطعان على ضفاف الخليج، وُلد صوت شعري فريد يُدعى المثقّب العبدي، واسمه الحقيقي العائذ بن محصن العبدي. لم يكن شاعرًا عابرًا في زمن المعلقات، بل واحدًا من الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، الذين سبقوا التدوين ولامسوا جوهر الإنسان العربي في لحظات التأمل والقرار.

شعره لا يُقرأ بوصفه زخرفًا لفظيًا، بل بوصفه وعيًا فرديًا نادرًا في مجتمع قبلي، يُجسّد فيه المثقّب فلسفة الفعل، ورفض التردد، وتمجيد الكرامة. فهل كان المثقّب العبدي مجرد شاعر تقليدي يمدح الملوك ويغزل النساء؟ أم أنه كان صوتًا فلسفيًا سابقًا لعصره، يرى في الشعر وسيلة لفهم الذات، وتحرير الإرادة، وتأكيد الحضور؟

هذا المقال يحاول أن يُنقّب في تلك الشخصية المتفردة، ويعيد رسم ملامحها بين الحكمة والقيادة، بين البحرين والجاهلية، وبين الصوت والرمز.

🧬 النسب والبيئة الثقافية: عبد القيس... من القبيلة إلى القصيدة

ينتمي المثقّب العبدي إلى قبيلة عبد القيس، إحدى القبائل العدنانية التي استوطنت منطقة البحرين في العصر الجاهلي، حيث كانت هذه المنطقة مركزًا تجاريًا وثقافيًا نابضًا، يربط بين الجزيرة العربية وبلاد فارس والهند. في هذا المناخ البحري المتعدد التأثيرات، نشأ المثقّب شاعرًا لا يشبه البادية، بل يُجسّد وعيًا حضريًا متأملًا، يرى في الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، لا فقط للتفاخر أو المدح.

علاقته بالبلاط اللخمي، ومدائحه للملك النعمان بن المنذر، تكشف عن شاعرٍ يعرف كيف يُخاطب السلطة، لكنه لا يذوب فيها. فقد احتفظ بصوته الخاص، وعبّر عن رؤيته للحياة والموت والقيادة، بلغةٍ تجمع بين الرقة والحسم، وبين الحكمة والتمرد.

إن بيئته الثقافية، الغنية بالتبادل التجاري والفكري، منحته قدرة على تجاوز النمط القبلي التقليدي، ليُصبح شاعرًا يُخاطب الإنسان، لا فقط الجماعة، ويُجسّد نموذجًا مبكرًا للشاعر الذي يرى في الكلمة فعلًا، وفي القصيدة موقفًا.

✍️ ملامح شعره وتحولاته: بين الحكمة والغزل وصوت القيادة

شعر المثقّب العبدي لا يُصنّف ضمن نمط واحد، بل يُجسّد تنوّعًا فنيًا وفكريًا نادرًا في العصر الجاهلي. فهو شاعر الحكمة والقرار، كما في قوله:

ولَلمَوتُ خَيرٌ لِلفَتى مِن حَياتِهِ إِذا لَم يَثِب لِلأَمرِ إِلّا بِقائِدِ

بيتٌ يُجسّد فلسفة الفعل الحاسم، ورفض التبعية، ويُعبّر عن وعي فردي متقدم في مجتمع قبلي يُمجّد الجماعة على حساب الذات.

وفي قصيدته الشهيرة "أفاطم قبل بينك متعيني"، يكشف عن جانبٍ آخر من شخصيته الشعرية، حيث يمتزج الغزل بالحكمة، وتتحوّل العاطفة إلى تأمل وجودي، حتى قال عنها أبو عمرو بن العلاء: "لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلّموه".

شعره يتميز بـ:

  • اللغة الرشيقة التي تجمع بين البساطة والعمق

  • الصور الشعرية الحية التي تُجسّد المعنى دون تعقيد

  • الرسائل الرمزية التي تتجاوز اللحظة إلى التأمل في المصير والكرامة

إن المثقّب العبدي لا يُكتب بوصفه شاعرًا فقط، بل بوصفه صوتًا قياديًا شعريًا، يرى في الكلمة وسيلة لتشكيل الوعي، وفي القصيدة موقفًا من الحياة، مما يجعله من أوائل من عبّروا عن الذات في زمنٍ كانت فيه الجماعة هي الصوت الأعلى.

🪞 التأطير الرمزي والفلسفي: شاعر الفعل في زمن التردد

في شخصية المثقّب العبدي، لا نقرأ مجرد شاعر جاهلي، بل نواجه نموذجًا فريدًا لـ"شاعر الفعل"، ذاك الذي يرى في الكلمة وسيلة للتحريض على القرار، وفي الشعر أداة لتشكيل الوعي الفردي في مجتمعٍ يُمجّد الجماعة. قصائده لا تُغني في المجالس، بل تُفكّر في المصير، وتُعيد تعريف الكرامة بوصفها موقفًا، لا ميراثًا.

في زمنٍ كانت فيه السلطة تُقاس بالقبيلة، والبطولة تُقاس بالدم، جاء المثقّب ليقول:

ولَلمَوتُ خَيرٌ لِلفَتى مِن حَياتِهِ إِذا لَم يَثِب لِلأَمرِ إِلّا بِقائِدِ

بيتٌ يُجسّد فلسفة الرفض للتبعية، والدعوة إلى المبادرة، وكأن الشاعر يُطالب الإنسان بأن يكون قائد نفسه، لا تابعًا لغيره. وهنا، تتداخل الرمزية الشعرية مع التأمل الفلسفي، ليُصبح المثقّب العبدي صوتًا سابقًا لعصره، يُعيد تعريف البطولة، لا بوصفها قوة جسدية، بل وعيًا بالكرامة، واستعدادًا للموت دون إذلال.

إنه يُجسّد لحظة نادرة في الشعر الجاهلي، حيث يتحوّل الشاعر من راوٍ إلى مفكّر، ومن مادح إلى ناقد، ومن تابع إلى مؤسس. وهكذا، يُصبح المثقّب العبدي مرآةً رمزية لفلسفة الفعل في زمن التردد، وصوتًا شعريًا يُنذر، يُفكّر، ويُحرّض، قبل أن يُغنّي.

🧠 الإرث الثقافي والتأثير: شاعرٌ في الظل ونغمةٌ في الوعي العربي

رغم أن المثقّب العبدي لا يُذكر كثيرًا في السرديات الشعبية، إلا أن حضوره في كتب الأدب الكبرى مثل الشعر والشعراء لابن قتيبة، وجمهرة أشعار العرب، يُثبت مكانته بين شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية. لقد ترك أثرًا عميقًا في تشكيل نغمة الحكمة والقرار في الشعر العربي، وفتح الباب أمام الشعراء الذين يرون في القصيدة موقفًا وجوديًا، لا مجرد زخرفة لفظية.

غيابه النسبي عن الوعي الثقافي المعاصر يعود إلى:

  • عدم وجود ديوان مستقل يُخلّد شعره

  • هيمنة أسماء أكثر شهرة مثل امرؤ القيس وزهير

  • تداخل شعره بين الغزل والحكمة مما جعله يُقرأ بوصفه شاعرًا عاطفيًا، لا مفكرًا شعريًا

لكن المثقّب العبدي يستحق أن يُعاد إدراجه ضمن مشروع استعادة الشخصيات الشعرية المؤسسة، خاصة أنه يُجسّد نموذجًا فريدًا للشاعر الذي يُفكّر، يُنذر، ويُحرّض، في زمنٍ كانت فيه الكلمة تُقال لتُسمع، لا لتُفهم. إن استعادته ليست فقط إنصافًا تاريخيًا، بل إثراء للوعي العربي المعاصر، الذي يبحث عن جذور الحكمة، والكرامة، والقرار، في زمنٍ يُعيد تعريف القيادة من جديد.

📚 الخاتمة: المثقّب العبدي... شاعر الحكمة الذي سبق عصره

في هذا المقال، تتبعنا سيرة المثقّب العبدي من جذوره في قبيلة عبد القيس، إلى حضوره الشعري في البحرين الجاهلية، مرورًا بملامح شعره التي جمعت بين الحكمة والغزل، وبين التأمل والقرار. حللنا قصائده بوصفها تعبيرًا عن الوعي الفردي في مجتمع قبلي، وتأملنا رمزيته بوصفه شاعرًا يرى في الفعل خلاصًا، وفي الكلمة موقفًا، وفي الشعر فلسفة وجود لا مجرد فن.

لقد كشف المقال أن المثقّب العبدي ليس مجرد شاعر من الطبقة الأولى، بل صوتٌ فلسفيٌ سابقٌ لعصره، يُعيد تعريف القيادة والكرامة في زمنٍ كانت فيه السلطة تُقاس بالدم والنسب. غيابه عن السرديات الشعبية لا يُقلّل من أثره، بل يُحفّز على إدراجه في المحتوى الثقافي المعاصر، سواء عبر المقالات الموسوعية، أو الأعمال الفنية، أو المناهج التعليمية التي تبحث عن جذور الحكمة في الشعر العربي.

إن استعادة المثقّب العبدي ليست فقط إنصافًا لشاعر منسي، بل إحياء لوعي شعري عربي أصيل، يُجسّد لحظة نادرة من التأمل والقرار، ويُعيد الاعتبار للكلمة التي تُفكّر، لا فقط تُغنّي.