صفية بنت ثعلبة الشيبانية: شاعرة ذي قار وصوت المرأة الجاهلية
🪶 مدخل تمهيدي: حين تتكلم الحرب بلسان امرأة
في زمنٍ كانت فيه البطولة تُروى على ألسنة الرجال، ظهرت صفية بنت ثعلبة الشيبانية لتكسر هذا النمط، وتُعلن أن المرأة ليست مجرد راوية للحدث، بل صانعة له. لقد جمعت صفية بين الشعر والموقف السياسي، فكانت شاعرة تعبّر، ومحرضة تُعبّئ، وصوتًا نسويًا نادرًا في مشهد جاهلي يهيمن عليه السيف والرمح. لم تكن كلماتها زينة للمجالس، بل كانت نداءً حقيقيًا للقتال، حين استجارت بها هند بنت النعمان قبل معركة ذي قار، فنهضت صفية وأعلنت الإجارة شعريًا، لتُشعل شرارة المواجهة بين بني شيبان والفرس.
إن موقع صفية ضمن الشاعرات الجاهليات لا يُقاس بعدد القصائد، بل بنوعية الدور الذي لعبته. فهي لم تكتب عن الحب أو الرثاء، بل كتبت عن الكرامة والنجدة والهوية القبلية، في لحظة كانت فيها الكلمة تُوازي السيف. لقد شاركت في صناعة الحدث، لا في روايته، وجعلت من الشعر أداة تعبئة، لا مجرد تعبير وجداني.
وهكذا، فإن إعادة قراءة شعر صفية اليوم ليست فقط استعادة لصوت نسوي منسي، بل هي دعوة لفهم الشعر الجاهلي بوصفه فعلًا تعبويًا، يُعيد تشكيل الوعي، ويمنح المرأة موقعًا فاعلًا في التاريخ، لا هامشيًا. لقد تكلمت الحرب بلسانها، فخلّدت موقفًا، وكتبت لحظة، وجعلت من القصيدة ساحة مواجهة، لا مجرد نص.
🧬 النسب والهوية: من بني شيبان إلى ذي قار
تنتمي صفية بنت ثعلبة بن سيّار الشيبانية إلى قبيلة بني شيبان، إحدى بطون ربيعة بن نزار، وهي قبيلة ذات حضور سياسي وعسكري بارز في العصر الجاهلي، خاصة في المواجهات الكبرى ضد الفرس. هذا الانتماء لم يكن مجرد موقع قبلي، بل كان هوية نضالية، تتجسّد في مواقف قومها من الهيمنة الفارسية، وفي مشاركتهم الحاسمة في معركة ذي قار، التي تُعد أول انتصار عربي على الفرس قبل الإسلام.
قبيلة بني شيبان كانت في قلب تحالفات ربيعة العدنانية، التي وقفت في وجه النفوذ الساساني، ورفضت الخضوع لسلطة كسرى، رغم الإغراءات والتهديدات. في هذا السياق، يُصبح انتماء صفية إلى بني شيبان رمزًا للمقاومة الثقافية والسياسية، حيث لا يُفهم موقفها من استجارة هند بنت النعمان إلا بوصفه امتدادًا لروح القبيلة التي تُقدّم الكرامة على السلامة، والنجدة على الحياد.
لكن صفية، بوصفها امرأة، لم تكن مجرد امتداد لقبيلتها، بل كانت صوتًا تعبيريًا مستقلًا، يُعيد تشكيل الهوية القبلية من منظور نسوي. لقد أعلنت الإجارة شعريًا، وحرّضت قومها على القتال، مما يجعل من نسبها بنية رمزية مزدوجة: فهي ابنة بني شيبان في الدم، لكنها ناطقة باسمهم في الشعر والموقف، مما يمنحها موقعًا فريدًا في الذاكرة الثقافية.
إن قراءة نسب صفية في ضوء معركة ذي قار لا تُعيد فقط رسم الخارطة القبلية، بل تُبرز كيف أن المرأة الجاهلية، حين تمتلك الصوت، تستطيع أن تُعيد تعريف الهوية، وأن تجعل من الانتماء فعلًا مقاومًا، لا مجرد وراثة. وهكذا، فإن صفية ليست فقط بنت ثعلبة، بل هي بنت اللحظة التاريخية، التي جعلت من الشعر سلاحًا، ومن النسب موقفًا، ومن القبيلة معنى يتجاوز الجغرافيا إلى الرمزية.
⚔️ صفية في لحظة التحريض: هند بنت النعمان والاستجارة
في لحظة فارقة من تاريخ العرب قبل الإسلام، لجأت هند بنت النعمان، ابنة آخر ملوك الحيرة، إلى قبيلة بني شيبان هربًا من بطش كسرى الثاني، ملك الفرس. لم تكن هذه الاستجارة مجرد طلب نجدة، بل كانت استدعاءً للكرامة العربية في وجه الهيمنة الساسانية. وقد وجدت هند ملاذها لدى صفية بنت ثعلبة الشيبانية، التي لم تتردد في إعلان الإجارة، لا بصمت ولا بموقف قبلي تقليدي، بل بـ نداء شعري صارخ، استنهضت فيه قومها، وحوّلت الموقف إلى شرارة تعبئة قومية.
قالت صفية في قصيدتها:
أحيوا الجوار فقد أماتته معًا كل الأعارب يا بني شيبانِ ما العذر؟ قد لفت ثيابي حرة مغروسة في الدُرّ والمرجانِ بنت الملوك
في هذه الأبيات، لا تتحدث صفية عن هند بوصفها امرأة مستجيرة فحسب، بل تصفها بـ"بنت الملوك"، وتُحمّل بني شيبان مسؤولية جماعية: "ما العذر؟". إنها تُدين الصمت، وتُطالب بالفعل، وتُعيد إحياء قيمة "الجوار" التي كادت أن تُنسى. هذا النداء ليس مجرد شعر، بل هو إعلان تعبوي، يُعيد تعريف البطولة بوصفها واجبًا أخلاقيًا، لا خيارًا سياسيًا.
ثم تقول:
يا آل شيبان ظفرتم في الدنا بالفخر والمعروف والإحسان
هنا، تُعلن النصر قبل وقوعه، وتُراهن على شجاعة قومها، مما يجعل من القصيدة أداة تحريض جماعي، تُحوّل الشعر إلى سلاح، والكلمة إلى طعنة في جسد الهيمنة الفارسية.
لقد جعلت صفية من موقفها لحظة تأسيسية، حيث تتحول المرأة من مستجيرة إلى مُجيرة، ومن شاعرة إلى مُحرّضة، ومن فرد إلى صوت جماعي. وهكذا، فإن قصيدتها لا تُقرأ فقط بوصفها تعبيرًا وجدانيًا، بل بوصفها نصًا تعبويًا، يُعيد تشكيل الوعي، ويمنح المرأة موقعًا فاعلًا في صناعة القرار القبلي.
✒️ شعرها: بين الفخر والتحريض
في قصيدة صفية بنت ثعلبة الشيبانية، التي ألقتها في سياق استجارة هند بنت النعمان قبيل معركة ذي قار، لا نجد مجرد تعبير وجداني، بل نواجه خطابًا تعبويًا نسويًا، يُعيد تعريف الشعر بوصفه أداة سياسية واجتماعية. لقد استخدمت صفية الكلمة كما يُستخدم السيف، وحرّكت بها قبيلة بني شيبان، فكان شعرها نداءً جماعيًا، لا صوتًا فرديًا.
من أبرز أبياتها:
أحيوا الجوار فقد أماتته معًا كل الأعارب يا بني شيبانِ ما العذر؟
في هذا البيت، تُدين صفية الصمت العربي، وتُحمّل بني شيبان مسؤولية أخلاقية وتاريخية. إنها لا تتوسل، بل تُطالب، وتُعيد إحياء قيمة "الجوار" بوصفها مبدأًا قبليًا مقدسًا. الخطاب هنا ليس عاطفيًا، بل سياسيًا صارمًا، يُخاطب الجماعة بلغة الواجب.
ثم تقول:
قد لفت ثيابي حرة مغروسة في الدُرّ والمرجانِ بنت الملوك
هنا، تُبرز صفية مكانة هند بنت النعمان، لا لتستدر العطف، بل لتُذكّر القبيلة بأن من استجارت بها ليست امرأة عادية، بل رمز ملكي، مما يُضفي على الإجارة طابعًا سياسيًا، ويحوّلها إلى قضية شرف قومي.
وتتابع:
يا آل شيبان ظفرتم في الدنا بالفخر والمعروف والإحسان
هذا البيت يُعلن النصر قبل وقوعه، ويُراهن على شجاعة القوم، مما يجعل من الشعر أداة تحفيز جماعي، تُعيد تشكيل الوعي، وتُحوّل القصيدة إلى ساحة تعبئة.
بلاغيًا، تتسم قصيدتها بـ:
-
الخطاب المباشر: استخدام النداء والإنكار ("ما العذر؟") لإثارة الحمية.
-
الصور الرمزية: "الدُرّ والمرجان" ترمز إلى النسب الملكي، و"لفت الثياب" ترمز إلى الاستجارة.
-
الاحتفاء بالبطولة الجماعية: لا تُمجّد ذاتها، بل تُعلي شأن القبيلة.
🪶 الرمزية الشعرية: المرأة بوصفها صوتًا جماعيًا
في قصيدة صفية بنت ثعلبة، لا نجد صوتًا ذاتيًا يتغنّى بالمشاعر الفردية، بل نواجه خطابًا جماعيًا يُعبّر عن البطولة القبلية، ويُعيد تشكيل دور المرأة بوصفها ناطقة باسم الجماعة، لا مجرد شاعرة. لقد كتبت صفية من موقع الفعل، لا من موقع الانفعال، فجعلت من الشعر وسيلة لتحفيز قومها، وتمجيدهم، وتأكيد انتمائها لهم بوصفه انتماءً نضاليًا.
في أبياتها، تُبرز صفية الكرامة الجمعية، وتُعيد تعريف البطولة بوصفها فعلًا جماعيًا لا فرديًا. تقول:
يا آل شيبان ظفرتم في الدنا بالفخر والمعروف والإحسان
هنا، لا تتحدث عن نفسها، بل تُخاطب القبيلة، وتُعلن انتصارها الأخلاقي قبل العسكري. إنها تُعيد بناء صورة بني شيبان بوصفهم أهل فخر ومعروف، مما يجعل من الشعر وثيقة تمجيد جماعي، تُعلي شأن القبيلة وتُرسّخ مكانتها في الذاكرة.
كما تُبرز صفية أخاها عمرو بن ثعلبة بوصفه فارسًا لا يُذكر باسمه فقط، بل بوصفه رمزًا للبطولة القبلية. تقول:
يا عمرو يا عمرو الفتى بن ثعلبة اليوم يوم العز لا يوم الندم
في هذا البيت، تُعيد تشكيل صورة الفارس، لا بوصفه فردًا، بل بوصفه ممثلًا للقبيلة في لحظة العز. إنها لا تُمجّده بوصفه أخًا، بل بوصفه حاملًا لراية الجماعة، مما يُضفي على الشعر طابعًا تعبويًا، ويُحوّل صفية من شاعرة إلى رمز تعبوي نسوي، يُعيد تعريف دور المرأة في المجتمع الجاهلي.
لقد استخدمت صفية الصور البلاغية بذكاء: "الدُرّ والمرجان" ترمز إلى النسب الملكي، "لفت الثياب" ترمز إلى الاستجارة، و"يوم العز" يُصبح لحظة تأسيسية في الوعي الجمعي. هذه الصور لا تُعبّر عن الذات، بل تُعيد تشكيل الجماعة، وتُمنحها معنى يتجاوز اللحظة إلى التاريخ.
📚 صفية في الذاكرة الأدبية
رغم أن صفية بنت ثعلبة الشيبانية لم تُدرج ضمن الشاعرات اللواتي خُصّصت لهن دواوين مستقلة، إلا أن حضورها في كتب التراث ظل لافتًا، وإن كان محدودًا. فقد ورد ذكرها في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وفي جمهرة أشعار العرب، ضمن سياق معركة ذي قار، لا بوصفها شاعرة وجدانية، بل بوصفها صوتًا تعبويًا نسويًا، حرّك قبيلة بني شيبان، وخلّد موقفًا سياسيًا حاسمًا.
هذا الحضور، وإن كان جزئيًا، يُظهر كيف أن صفية لم تُكتب بوصفها شاعرة تقليدية، بل بوصفها فاعلة في لحظة تاريخية، مما يجعل من شعرها أقرب إلى الوثيقة السياسية منه إلى النص الأدبي. لقد شاركت في صناعة الحدث، لا في روايته، مما يُعيد تعريف موقعها ضمن الشاعرات الجاهليات.
عند مقارنة موقعها بـ الخنساء، التي خُلّدت في الرثاء، وأميمة بنت ربيعة، التي كتبت في الفخر، نجد أن صفية تمثّل نمطًا ثالثًا: شاعرة التحريض السياسي. إنها لا ترثي ولا تتغنّى، بل تُعبّئ وتُحرّض، مما يجعل من شعرها أدب موقف، لا أدب شعور.
لكن غيابها عن المدونة الشعرية الكبرى يطرح سؤالًا نقديًا: هل هو تهميش نسوي ممنهج، أم مجرد اقتصار على الشعر المناسباتي؟ ربما لم يكن شعرها كثيرًا، لكنه كان مؤثرًا ومفصليًا، مما يُعيد طرح إشكالية التوثيق: هل يُخلّد من يكتب كثيرًا، أم من يُغيّر كثيرًا؟ وهل تُحتفى المرأة حين تُعبّر، وتُهمّش حين تُحرّض؟
إن استعادة صفية اليوم، في ضوء هذا الغياب، ليست مجرد إنصاف تاريخي، بل هي دعوة لإعادة تعريف الشعر النسوي الجاهلي، بوصفه فعلًا ثقافيًا مقاومًا، يُعيد تشكيل الوعي، ويمنح المرأة موقعًا فاعلًا في التاريخ، لا هامشيًا. لقد كتبت صفية في لحظة فارقة، وجعلت من الشعر سلاحًا، ومن الكلمة موقفًا، ومن الذات صوتًا للجماعة.
🪶 خاتمة: صفية بوصفها صوتًا نسويًا مقاومًا
في شخصية صفية بنت ثعلبة الشيبانية تتجسّد واحدة من أكثر المفارقات حدة في التاريخ الأدبي العربي: امرأة شاركت في صناعة القرار القبلي، وحرّكت قبيلتها في لحظة مواجهة مصيرية، لكنها ظلت غائبة عن المدونة الشعرية الكبرى، وكأن الفعل النسوي لا يُوثّق إلا حين يكون وجدانيًا، لا سياسيًا. لقد كانت صفية صوتًا تعبويًا نسويًا، لا يكتب عن الذات، بل يُعبّر عن الجماعة، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي في لحظة مقاومة.
لقد كتبت صفية في لحظة فارقة، حين استجارت بها هند بنت النعمان، فحوّلت الاستجارة إلى نداء شعري، والنداء إلى موقف، والموقف إلى معركة. لم تكن كلماتها زينة للمجالس، بل كانت شرارة تعبئة قومية، تُعيد تعريف البطولة، وتمنح المرأة موقعًا فاعلًا في القرار القبلي، لا هامشيًا. إنها لم تكن شاهدة على الحدث، بل صانعة له، مما يجعل من شعرها نموذجًا لأدب الموقف، لا أدب العاطفة.
المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذا الدور الفعلي لم يُترجم إلى حضور أدبي مكافئ. لم تُدرج صفية في قوائم الشاعرات الكبار، ولم يُفرد لها ديوان، رغم أن قصيدتها كانت أكثر تأثيرًا من كثير من النصوص المدونة. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة النظر في آليات التوثيق، وفي كيف يُخلّد الشعر، ومن يُكتب له البقاء.
وهكذا، فإن إعادة الاعتبار لصفية اليوم ليست مجرد إنصاف تاريخي، بل هي دعوة لإعادة تعريف الشعر النسوي الجاهلي، بوصفه أدبًا مقاومًا، يُعبّر عن الجماعة، ويُعيد تشكيل الهوية، ويمنح المرأة حقها في أن تكون فاعلة، لا مُفعَلًا بها. لقد تكلمت الحرب بلسانها، فخلّدت موقفًا، وكتبت لحظة، وجعلت من القصيدة ساحة مواجهة، لا مجرد نص.